القاهرة 30 مارس 2015 الساعة 11:57 ص
في كل مرة تتحدث صحف العالم عن ممثل استثنائي لمناسبة من المناسبات، لا يكون هناك بد من الإشارة إما إلى أن هذا الممثل كان تلميذاً في «استديو الممثل» أو أنه كان من المتأثرين بتعاليم ذلك الاستديو. بكلمات أخرى يعزو الجميع سبب التألق الفني الذي يبديه الممثل إلى علاقة ما بـ «استوديو الممثل» الذي قام على أكتاف لي ستراسبرغ وإيليا كازان وغيرهما. هكذا مثلاً حين تحدثت مجلة إنكليزية مختصّة هي «إمباير» قبل سنوات عن تصنيفها لأعظم خمسة ممثلين في تاريخ الفن السينمائي، تبين أن أربعة من بينهم تلقوا دروس الفن في «استديو الممثل» نفسه. وإذ يمعن الناس يبغون معرفة ما هو «استوديو الممثل» هذا، وما هي جذوره، يسود الحديث عن «المنهج» ثم بالتحديد، واستطراداً، عن المسرحي الروسي الكبير قسطنطين ستانسلافسكي بصفته الفنان والمنظّر الذي ابتدع للقرن العشرين، فن التمثيل محدثاً في ما سبقه من فنون تمثيلية ثورة كانت في الأساس ثورة مسرحية، ولكن من المؤكد أنه ما كان يمكن فن السينما أن يكون، في زمننا هذا، ما هو عليه، من دون تلك الثورة. ذلك أن أساليب ستانسلافسكي، نقلت التمثيل، مباشرة، من المبالغات الاستعراضية والعرض البرّاني السطحي والانفعالي للعواطف والمواقف، إلى تعبير داخلي ينبع من الروح. والحال أن المرء إن شاء استذكار نماذج حية على ما نقول، فسيتعين عليه أن يتخيل أناساً مثل براندو وآل باتشينو وجاك نيكلسون وغيرهم وهم يؤدون أدوارهم الخالدة.
> كان قسطنطين ستانسلافسكي ممثلاً ومخرجاً يملأ الدنيا ويشغل الناس في موسكو كما لاحقاً في مدن أخرى، هو الذي خاض الفن المسرحي باكراً في أواخر القرن التاسع عشر... حيث إنه منذ ذلك الوقت الباكر أدرك في شكل واضح أن العالم يتغير وأن الظروف التاريخية والأفكار الفلسفية راحت تعطي الفنون دوراً آخر في حياة المجتمعات، جاعلة إياها أقرب إلى الإنسان واهتماماته وروحه. وهو إذ أدرك أن الإنسان، الممثل، هو من يراه الناس على المسرح، أكثر مما يرون أي شيء آخر، وجد أنه بات لزاماً على هذا الكائن أن يتصرف في شكل مغاير لما كان يتصرف به حتى ذلك الحين. وانطلاقاً من هذه الفكرة البسيطة صاغ ستانسلافسكي ما سمي «أخلاق المسرح» عبر الكثير من المؤلفات النظرية التي كتبها خلال فترة متأخرة من حياته، وكان أبرزها أربعة كتب أشهرها وأهمها: «حياتي في الفن» (1924) و «ممثل يحضر نفسه» (1926) إضافة إلى كتابين صدرا بعد رحيله «ستانسلافسكي يستعد لتقديم عطيل» (1948) و «بناء الشخصية» (1950).
> يعتبر كتاب «حياتي في الفن» الأشهر بين أعمال ستانسلافسكي النظرية كافة، وهو ترجم إلى الكثير من اللغات، وكان ذا تأثير دائم في كبار الممثلين في شتى أنحاء العالم. وفي هذا الكتاب صاغ ستانسلافسكي مجمل النظريات التي حكمت عمله الفني كمخرج وممثل ومنشط، في شكل عام، للحركة المسرحية الروسية في ذلك الحين، وهي النظريات نفسها التي سنعود إلى مواجهتها في كتبه الأخرى.
> والحقيقة أن أول ما تمكن ملاحظته هنا، هو أنه إذا كان عمل ستانسلافسكي النظري يتخذ طابعه الأوضح في فصول كتاب «مذكراته» الأساس الذي نحن في صدده هنا، «حياتي في الفن»، فإن هذا يعني أن التجربة لدى هذا الفنان سبقت النظرية، بمعنى أنه إنما قدم في الكتاب خلاصة تجربته الخلاقة، مستخلصاً من تلك التجربة العملية، تلك المبادئ التي صارت قانوناً عاماً لفن المسرح ولفن التمثيل في القرن العشرين... وصولاً إلى حضورها الطاغي في فن السينما بعد ذلك. ولأن الأمر على هذا النحو، فمن الواضح أن سبر أغوار نظريات ستانسلافسكي، لا ينفصل، في أي حال من الأحوال، عن سبر أغوار حكاية حياته، وتحديداً، حياته في الفن المسرحي.
> إذا كانت جهود ستانسلافسكي الفنية التجديدية بدأت عام 1898، حين أسس مع زميله نميروفتش دانشنكو «مسرح الفن» في موسكو الذي سرعان ما اكتسب سمعة عالمية كبيرة، فإن ستانسلافسكي كان سبق له قبل ذلك أن خاض تجارب إخراجية مسرحية عدة، لا سيما مع فرق هواة... ولقد كانت تجربته الأبرز في ذلك المجال تقديمه، للمرة الأولى على خشبة روسية، نص «ثمار التنوير» من تأليف تولستوي، كما أنه مسرح نص دوستويفسكي «سيلا ستيفانشيكوف»... ولقد كان هذا النوع من الأعمال - كما يروي هو نفسه في «حياتي في الفن» - التمهيد الضروري لبداية اكتشافه ما يسمى لاحقاً النزعة الواقعية في الأداء المسرحي. من هنا، حين أسس فناننا هذا «مسرح الفن» في موسكو، كان من الطبيعي أن تكون أولى الأعمال المقدمة نصوصاً من طينة «القيصر فيودور إيفانوفتش» لألكسي تولستوي (1898) و «سطوة الظلام» لليو تولستوي، و «يوليوس قيصر» لشكسبير (1903)، ذلك أن تلك المرحلة كانت مرحلة صراعات سياسية جذرية كبرى في روسيا، وما كان للمسرح أن ينأى بنفسه عن تلك الصراعات... ولما كان مثل تلك الأعمال يحتاج إلى تعبيرات جوانية وأداء تمثيلي خاص، وجد ستانسلافسكي نفسه - كممثل وكمخرج في آن واحد - يضع موضع التطبيق نظريات وأساليب كان قد صاغها تحت تأثير ارتباطه بفرقة فينغر، إضافة إلى تأثيرات خبرته الخاصة. هكذا ولدت - كما يفيدنا الكاتب نفسه - تلك التعاليم التي ثوّرت المسرح ككل وليس في روسيا وحدها... والتي اختصرت تحت اسم «المنهج». والحال أن ستانسلافسكي لم يتوقف، وحتى رحيله عن عالمنا، عن تطوير ذلك المنهج وإعادة النظر فيه، خصوصاً في ضوء تطور الحركة المسرحية - ولم لا نقول الحركة السياسية أيضا؟ في أنحاء كثيرة من العالم. غير أن ضروب التطوير كلها لم تطاول جوهر النظرية الذي يقضي بأن «توضع في خدمة الممثل - وربما في خدمة الجمهور كله أيضاً - مفاهيم مثل الوعي الباطني، والحدس، والأداء الجواني، في أسلوب سيعرف أيضاً تحت اسم «أسلوب التقنية السيكولوجية» ولا يمكن اعتبار تزامنه مع ولادة التحليل النفسي على يد سيغموند فرويد ورفاقه في النمسا مجرد مصادفة. والحال أن هذا المنهج الذي ظل ستانسلافسكي يدرسه حتى عام 1936، يقوم على أساس الوعي الجواني للفنان بشخصيته الخاصة، انطلاقاً من بحث سيكولوجي معمق. وبعد ذلك، إذ يكون الفنان (الممثل) قد اتسم بسمات تلك الشخصية، مزوداً بما يتبين له أنه الحياة السابقة والمشاعر المتراكمة لتلك الشخصية، يصير على الفنان أن «يمثل» حياة الشخصية ومشاعرها وكأنها حياته الخاصة ومشاعره. وهو بهذا يعيش هذه الحياة الجديدة فوق الخشبة كأنه لا يملك في الواقع أية حياة أخرى خاصة به في نوع من الانصهار كان ستانسلافسكي يسميه «وحدة الفنان وسط الجمهور» - وهو ما سوف يطلق عليه الأميركيون اسم «اللحظة الحميمة» نفسه في تطويراتهم المتنوعة لـ «المنهج»... وإذا كان ستانسلافسكي قد تحدث عن هذا «المنهج» طويلاً في «حياتي في الفن» كما في كتاباته اللاحقة، فإنه سيدخل الكثير من التعديلات عليه هو أيضاً، لاحقاً، وكما أشرنا في ضوء التطور الذي راح يطاول العلوم الإنسانية والاجتماعية، ثم خصوصاً في ضوء الأحداث العاصفة في بلده.
> والمهم في الأمر كله هو أن قسطنطين ستانسلافسكي (1863 - 1938)، طبق نظرياته هذه في شكل خلاق، لا سيما خلال السنوات الأولى التي تلت تأسيس «مسرح الفن» في موسكو... ثم خصوصاً عبر تقديمه أعمالاً لمكسيم غوركي (أبرزها «أهل الحضيض») ثم أعمال تشيكوف الذي كان صديقه وعرف كيف يستفيد أيضاً من نظريات ستانسلافسكي وتطبيقاتها، في كتابته أبرز الأعمال التي كان هذا الأخير أول من قدمها مثل «طائر النورس» (1898) و «الخال فانيا» (1899) و «الشقيقات الثلاث» (1901) و «بستان الكرز» (1904)... وهي أعمال أتاحت في الحقيقة لستانسلافسكي أن يستفيد من صوغ تشيكوف حواراتها - التي يغلب عليها طابع سلبي - لكي يبرهن الكيفية التي بها يشتغل الفنان على الحوارات، فيقلبها من كلام خارجي إلى مشاعر داخلية...