القاهرة 29 مارس 2015 الساعة 03:02 م
على مدى تاريخ مصر ، كان الفقر هو أحد الآفات التى يعانى منها الشعب المصرى، و لذلك كان الفقراء و المهمشون هم أحد أهم الموضوعات التى تتناولها السينما المصرية بلا كلل أو ملل، لذا عندما تستهل السينما المصرية باكورة انتاجها بفيلم زينب عام 1930، و تخرج علينا المخرجة الشابة نادين خان بفيلمها هرج و مرج عام 2013 ،و الذى يتناول نفس الموضوع لكن بأسلوب مختلف بالطبع، نجد أن الغلابة الذين تعرضوا لظلم فادح ،على مدار الثلاثين عاما الأخيرة، يحتلون مكانا متميزا فى عقل و قلب السينما المصرية، التى ما تزال رغم الهجمة الوحشية عليها من قاتلى الثقافة و الذوق ،تحاول الاضطلاع بدورها الوطنى و الإنسانى، فى عرض قضية الناس الغلابة ،من خلال مبدعين يحبون مصر و يعلمون قيمة الفن و يقدرو
ن دوره فى النهوض بالمجتمع .و لما كان الغلابة هم الشغل الشاغل للحكومة المصرية فى عهد جديد من التنمية و الازدهار لمصر ، لذا دعونا نأخذ جولة فى تاريخ
السينما المصرية العظيمة لنرى كيف عرضت قضية الناس الغلابة .
فى البدء كان فيلم "زينب " الصامت و المأخوذ عن رواية الدكتور محمد حسين هيكل " اديب و سياسى مصرى ولد عام 1888 "و الفيلم إنتاج عام 1930 بطولة بهيجة حافظ و سراج منير و زكى رستم و دولت ابيض و من إخراج " محمد كريم " و هو من جيل الرعيل الأول من مخرجى السينما المصرية، و قدم للسينما أكثر من 15 فيلما منها "الوردة البيضاء عام 1933 و يوم سعيد عام 1940 و هو الفيلم الذى شهد ميلاد ظاهرة سينمائية هى الراحلة العظيمة " فاتن حمامة " فى أول ظهور لها على الشاشة الفضية ، و كان عمرها فى ذلك الوقت 9 سنوات ، و كلا الفيلمين بطولة موسيقار الأجيال " عبد الوهاب " .
الفيلم يتعرض للمجتمع الريفى الفقير، الذى لا يملك أقل مقومات الحياة من الغذاء و العلاج، و يضع همه الأول فى النجاة من الفقر الذى يطحنه هو و أولاده بزيجة لإحدى بناته " زينب " ، على غير رغبتها من أحد أثرياء القرية الذى يعاملها كأحد حيوانات الحقل، فيتمكن منها المرض فى النهاية، و لا تجد العلاج لتموت و تذهب ضحية الفقر و الجهل . و الفيلم أعيد انتاجه مرة أخرى بنفس المخرج " محمد كريم " و لكن بطولة " راقية ابراهيم " و يحيى شاهين و فريد شوقى و سناء جميل و الفيلم أعيد إنتاجه فى ديسمبر 1952 ،أى بعد الثورة بستة أشهر و تضمن فى نهايته الجملة المشهورة لراقية ابراهيم " اللى مالوش أهل .الحكومة أهله " و إعادة انتاج الفيلم و الجمله فى نهايته ، إشارة من الثورة التى استخدمت السينما كوسيلة لتوعية الفلاحين، اللذين اهتمت بهم الثورة اهتماما كبيرا، بعيوب و خطايا النظام الاقطاعى البائد الذى انقلبت عليه، و هو نوع من وسائل كسب التأييد الشعبى لثورة 1952.
قبل ثورة 1952 يأتى فيلم "العامل " عام 1943، ليثير جدلا واسعا و مخاوفا كبيرة فى أوساط الحكم، بينما يلاقى اقبالا ضخما فى الشارع المصرى. فالفيلم يتكلم عن موضوع لم يتعرض له الكثير من المنتجين، فهو موضوع اجتماعى سياسى شائك. فحقوق العمال كانت دائما ما تخلق جدلا فى أوساط السياسة، فالعمال طبقة مؤثرة فى المجتمع فبدونها لا تكون الصناعة، و فى ذلك الوقت كانت الحرب العالمية الثانية 1940- 1945 ماتزال تدور رحاها فى العالم، و على الرغم من انكسار روميل القائد الألمانى الشهير فى العلمين، إلا أن انجلترا كان آخر ما تريده اضطرابات و قلاقل تسرى فى الأوساط العمالية، بينما يجرى العمل على قدم وساق لأكبر عملية حربية لتحرير أوروبا " عملية " اوفر لورد " . لذا فقد تم منع الفيلم عند عرضه للمرة الثانية ،بعد أن عرض للمرة الأولى فى فبراير 1943 بينما تم منعه من العرض فى يوليو من نفس العام .
فيلم العامل يدور حول "احمد" بطل الفيلم و يقوم بدوره الفنان حسين صدقى " منتج الفيلم " و يبدا أحمد كعامل بسيط فى أحد المصانع ،و لكنه يفصل منه بسبب دفاعه عن حقوق العمال. و يقترض أحمد بعض المال من حبيبته، ليبدأ به عمله الخاص. و لا يلبث أن ينجح ليصير من أصحاب المصانع، و رغم غناه و أنه أصبح من أصحاب المصانع، لا ينفك يدافع عن حقوق العمال فى جميع المصانع الأخرى حتى يحصلون على حقوقهم كاملة من أصحاب المصانع المستغلين .
و قد رأى الكثر من أصحاب المصانع و رجال الأعمال فى ذلك الوقت و منهم الكثير من الأجانب، أن الفيلم يحرض العمال ضدهم، و يحثهم على الاضراب .فطلبت الرقابة من حسين صدقى أن يقوم بعمل إضافة مشاهد إلى الفيلم، تبين فيه التحديث الذى تم فى قوانين العمل و الذى يضمن حقوق العمال، و لكن حسين صدقى يرفض بحجة التكلفة التى يتطلبها ذلك، و أن بعض الممثلين فى الفيلم قد ارتبط بأعمال أخرى، فيتم التوصل للحل الرقابى التقليدى، فيتم النص فى نهاية الفيلم بالقوانين و الاجراءات الجديدة ،التى تم اتخاذها لصالح العمال للتهدئة من الشعور العام .و لكن رغم ذلك يتم منع الفيلم عن العرض الثانى له، و الذى جاء بعد العرض الأول بخمسة شهور كاملة فى يوليو 1943 .
" أرض النيل " عام 1946 بطولة أنور وجدى و مديحة يسرى و من إخراج عبد الفتاح حسن و هو مخرج و مؤلف ولد عام 1910 وأخرج للسينما المصرية 20 فيلم المعروف منها جماهيريا هو فيلم " عدو المرأة " عام 1946 بطولة محمد فوزى و صباح و زكى رستم . ونعود لفيلم أرض النيل وهو من الأفلام الغير منتشرة جماهيريا لأنور وجدى .و الفيلم يروى قصة قرية مصرية تقع بين براثن أحد المرابيين الذى يستغل فقر الناس و جهلهم فى اقراضهم " بالفايظ " و استغلالهم إلى أن يثور أهل القرية على ذلك المرابى، بقيادة فؤاد ابن الباشا الذى يساعدهم على عمل مشاريع تستفيد منها القرية، لتتخلص من قبضة ذلك المرابى، الذى يحاول بكل الطرق تخريب تلك المشاريع ،و لكنه يفشل فى النهاية و يتم تقديمه للعدالة و الفيلم يعرض الفكر الاشتراكى أو الشيوعى، الذى كان يحارب فى تلك الفترة من قبل الحكومة، و يتمحور ذلك الفكر حول التخلص من سيطرة رأس المال " المتمثل فى المرابى " على عوامل الانتاج، و هى فى مجتمع القرية تتكون من الأرض و القوة البشرية ،حيث يتم توظيف تلك العوامل فى خدمة المجتمع بالكامل، ليعود ريعها أو يقسم على المجتمع بالكامل، و ليس فرد أو أفراد معينين .
فى 1952 يظهر فيلم "الأسطى حسن" من إنتاج و إخراج " صلاح أبو سيف " ليعبر عن وجهة نظر مقارنة بين طبقتى الفقراء و الأغنياء. فيروى قصة الأسطى حسن " فريد شوقى " الذى يعانى من شظف العيش و الفقر و يداوم على الشكوى من حاله ،بينما باقى اهل الحارة يعيشون فى رضا و قناعه، إلى أن يتعرف على سيدة ارستقراطية " زوزو ماضى " تعجب به و تستدرجه إلى حياة الأغنياء التى يصورها الفيلم حياة فاسدة مترفة لا تعرف الخلاق. و يصور الفيلم نظرة الأغنياء إلى الفقراء على أنهم أغراض للمنفعة، فما أن تنتهى المرأة الغنية من الأسطى حسن الذى يهجر أسرته من أجلها، حتى تستغنى عنه و تعود إلى أفراد طبقتها ممثلين فى العشيق الجديد " رشدى أباظه ". و تتطور الأحداث بصورة درامية موجهة فتصدم السيدة الغنية ابن الأسطى حسن بسيارتها، و يطلب منها الأسطى حسن المال ليعالجه من الإصابة الشديدة التى لحقت به من الحادث، فترفض علاج الطفل
فى إشارة إلى انعدام الأخلاق و الرحمة عند تلك الطبقة، التى يهاجمها الفيلم بضراوة منذ البداية ،و ربما كان الفيلم يرصد حالة الغبن الواقعة على الطبقة الفقيرة ،و حالة القهر التى تمارس من قبل الطبقة الغنية على تلك الطبقة . و التى كانت واقعا سائدا فى فترة ما قبل الثورة، و قد تم منع الفيلم من العرض من قبل البوليس السياسى فى يونيو 1952 بدعوى أن الفيلم يدعو إلى الشيوعية .و لكن قيام الثورة يعيد الفيلم مرة أخرى إلى شاشات العرض . و يستمر بعدها ملك الترسو فى تحيزه للفقراء فيقدم عام 1978 فيلم "البؤساء" عن رواية الأديب الشهير " فيكتور هيجو" التى كتبها عام 1862 و يصف فيها حال الطبقة الشعبية التى تعانى من ظلم اجتماعى بين فى الفترة التى عاصرت سقوط نابليون بونانبرت عام 1815 و نفيه خارج فرنسا، و يقوم وحش الشاشة تلك المرة بدور الفقير البائس "جان فالجان" فى الرواية و" حامد " فى الفيلم المصرى و الذى يدخل السجن بسبب سرقته لرغيف من الخبز يسد به جوعه ، لكنه يهرب من السجن ليكون ثروة ضخمة يستخدمها فى مساعدة الفقراء .
و مع قيام ثورة 1952 تتعدد الأفلام التى تتكلم عن الاشتراكية و حقوق العمال ففى 1956 يقدم يوسف شاهين للسينما المصرية أحدى كلاسيكياته الرائعة و هو فيلم " صراع فى الميناء " من تأليفه و إخراجه، و بطولة فاتن حمامة و عمر الشريف و الفيلم يعرض إلى فكرة سيطرة أصحاب الأعمال على العمال، عن طريق صاحب شركة للشحن و التفريغ " حسين رياض " له ابنان إحدهما شرعى و هو ممدوح " أحمد رمزى
" و الآخر غير شرعى وهو رجب الونش " عمر الشريف" و الذى لا أحد يعرف نسبه سوى الأب ". و من خلال أحداث الفيلم يدور الصراع بين الأخين ممدوح الغنى و رجب الفقير على الفوز بقلب حميدة " فاتن حمامة" و يتعرض الفيلم من خلال الصراع بين الغنى و الفقير إلى فكرة الاشتراكية ،و التى تظهر فى الأحداث التى تقدم من خلال الفيلم و التى تناقش حقوق العمال.
و تظل فكرة حقوق الطبقات الفقيرة تلح على يوسف شاهين،فيتعرض لها أيضا من خلال فيلمه الشهير " باب الحديد " و الذى يقدم أيضا طبقة أخرى من المهمشين و هم الشيالين و باعة المثلجات فى محطة القطار، و بينما يتعرض الفيلم إلى شخصية "قناوى " المريض النفسى الأعرج التى جسدها بمهارة شديدة " يوسف شاهين " نجد الفيلم يتضمن أيضا قضية محورية، هى قضية النقابات العمالية و حقوق العمال و هى تلك القضية التى شغلت بال شاهين و الحت عليه كقاسم مشترك أعظم فى أفلامه فهى أيضا تظهر فى إسكندرية كمان و كمان فى اعتصام الفنانين، و هى أيضا التى انفجرت مدوية فى صيحة محمود المليجى " محمد أبو سويلم " بأداؤه المبهر فى رائعة عبد الرحمن الشرقاوى" الأرض " عام 1970 حينما قال " تروح فين الشمس من على قفا الفلاح " و هى تلك القصة التى روت ملحمة لا تنسى من عصف السلطة، بالفلاح البسيط محمد ابو سويلم الذى روى أرضه بدمائه .
هكذا الأستاذ هكذا التلميذ، فحينما ظهر خالد يوسف يحمل فى وجدانه مصر و المصريين ،و تعرض لطبقات المهمشين و لظلم السلطة لهم، فى ظل النظام الذى احتوى على كم هائل من الفساد و الإجرام يفوق الخيال. فجاءت أفلامه " حين ميسرة "عام 2007 و "هى فوضى" مع أستاذه يوسف شاهين فى نفس العام و" كلمنى شكرا" عام 2010 .جائت تلك الأفلام لتجسد واقع المهمشين من السواد الأعظم من المصريين، و بينما استاء الكثيرون من الرجل قائلين و هم يجلسون فى منازلهم المكيفة ، لماذا يصر ذلك الرجل على إظهار سوءات المجتمع المصرى !
و لكن الذى لم يكن يعرفه اولئك، أن خالد يوسف كان يرسم بأمانه واقعا مصريا حقيقيا معاشا يفرض نفسه ، مواجها بذلك نظام أوغل فى الفساد ،معرضا نفسه لبطش ذلك النظام ،كى يرسل صرخة حق و دعاء وطنى، أن انقذوا أبناء المصريين و إن كان لم يستطيع أن يرصد الواقع بصورته الحقيقية، فهو فى حين ميسرة يعتذر لجمهوره ،أنه لم يستطع تقديم الواقع القاسى كما رأه ، و لكن الجميع رأوا ذلك الواقع بصورته الحقيقية البشعة، عندما سقط الجدار الأمنى الذى كان يحول بينهم و بينه .
و يحذو حذوه مخرج متميز آخر هو سامح عبد العزيز ،حينما يقدم فيلم "صرخة نملة" عام 2011 و التى يقوم بدور النملة "أو المواطن المصرى" ،ممثل موهوب هو عمر عبد الجليل مرددا عبارة توضح الواقع المصرى فى ذلك العهد المظلم " اعمل نملة تاكل سكر " تلك الأفلام توضح أنه و فى احلك عهود السينما المصرية لم تفقد دورها و لم تخل من مبدعين شرفاء وطنيين، أخذوا على عاتقهم قضايا بلادهم فى وقت سادت فيه موجه من الاسفاف الفنى، أذت وجدان المصريين و عقولهم .
و نختتم بفيلم نادين خان " هرج ومرج " عام 2013، و الذى يتعرض لقضية العشوائيات و الطبقات المهمشة ،من خلال نوع من الفنتازيا. فهى تصور منطقة عشوائيه تمثل مجتمع مغلق منعزل عن العالم الخارجى، تأتيه احتياجاته من الخارج عن طريق موردين معينين، وتتعرض لأفراد ذلك المجتمع و خصائصه عن طريق اثنان من الشباب زكى " محمد فراج " و منير " رمزى لينر "يتنافسان على حب فتاةهى منال " ايتن عامر" .و يكون نتيجة للفراغ و البطالة أن كل أحلامهما تنحصر فى الفوز بالفتاة، و الفيلم حائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان دبى السينمائى الدولى فى دورته التاسعة .
على مدى ثمانين عاما احتضنت السينما المصرية الفقراء، و المهمشين من الشعب المصرى ،اولئك الذين كانوا فى أوقات أفضل، و أحوال اقتصادية أكثر رخاء يمثلون قسما كبيرا من جمهور السينما المصرية، حتى أن الفنان الكبير فريد شوقى اطلق عليه لقب " ملك الترسو " لحب جمهور الترسو لأفلامه، و تفاعلهم معها فهو حسن فى فيلم الأسطى حسن ،و هو الشاويش " خميس " فى رصيف نمرة 5 و هو " حميدو " فى فيلم حميدو .أبدا لم تنس السينما المصرية العظيمة الأم الشعب المصرى و أحلامه و أمانيه، حتى و هى عليلة سقيمة قاومت آلامها و اطلقت صرختهم ،طالبة العدل و الانصاف " للغلابة " .