القاهرة 08 مارس 2015 الساعة 01:55 م
مرّ الشعب الروسى بتجربتيْن : تجربة الحزب الشيوعى ، ثم تجربة رأسمالية النهب المُنظم ، وبين التجربتيْن تبيّن موقف (المثقف) هل هو مع السلطة أم مع الشعب...؟ . ومن هنا كانت أهمية كتاب أ. أحمد الخميسى ، ولأنه أديب وله أكثر من مجموعة قصصية، وترجم عن الأدب الروسى للأطفال وللكبار، فإنّ أ. أحمد الخميسى عندما تذكر السنوات التى قضاها فى روسيا (الشيوعية والرأسمالية) كتب عن العهديْن وعن الشعب الروسى وعن المبدعين بروح المُبدع وهو يستدعى أوراقه (كنوزه) عن تلك المرحلة فأصدر كتابه (أوراق روسية) الصادر عن كتاب الأخبار- يونيو 2013.
حرص فى البداية على إزالة الخطأ السائد عن (تجهم الروس) وبعد معاشرتهم اكتشف أنّ (تحت الجليد الروسى روحًا عاطفية حارة محبة للمزاح) وولع الروس بالنكتة. وعندما حط قدمه لأول مرة فى روسيا ولا يعرف لغتها وليس معه نقود ورأته فتاة روسية أمام تليفون الشارع وأدركتْ ارتباكه فإذا بها تنقذه وتضع كوبكيْن فى جهاز التليفون. فشل الإتصال الأول فإذا بها تضع كوبكيْن آخرين. وذاك التصرف لا يفعله إلاّ شعب مُتحضر، لذا ألف الكاتب ميخائيل زادورنوف كتابًا بعنوان (عالم مجنون مجنون) عام 2005 أدان فيه الغزو الأمريكى للعراق، فى شكل رسائل من جندى أمريكى قال لزوجته ((نحن الشعب الأمريكى المُوزع المُعتمد للديمقراطية فى العالم)) وهكذا تستمر السخرية فى الكتاب. وربط هذا بموقف المواطنة فيرا زاسوليتش التى أطلقتْ النار على مدير شرطة لأنه عذب شخصًا معتقلا وقالت ((لا يجوز لأحد أنْ يُهين إنسانـًا بمثل هذا الإيمان العميق بالإفلات من العقاب)) مع مراعاة أنها لا تعرف الإنسان المعتقل. وربط ذلك بموقف المواطن الروسى الذى تجاوز الستين من عمره وسكب البنزين على جسده وأشعل فيه النار احتجاجًا على مشروع غزو أمريكا للعراق عام 88. وذكرته أوراقه بموقف الاتحاد السوفيتى بعد هزيمة بؤونه/ يونيو67، إذْ فقدتْ مصر ثلثىْ طائراتها المُقاتلة و800 دبابة من أصل ألف ، فأقام الروس جسرًا عسكريًا مفتوحًا مع مصر. وفى يناير70 زار عبدالناصر موسكو سرًا وطلب من الروس صواريخ سام3 فوافقوا. وتمّ الاتفاق على إرسال خمسة عشر ألف ضابط وجندى روسى إلى مصر، ومعدات عسكرية وشبكة دفاع جوى. وبدأتْ العملية التى أطلق الروس عليها اسم القوقاز. وبسبب ذاك الدعم توقفتْ طائرات الفانتوم الإسرائيلية/ الأمريكية عن اختراق العمق المصرى وضرب المدنيين كما حدث مع عمال مصنع أبى زعبل وأطفال مدرسة بحر البقر. ومن المعلومات التى يجهلها كثيرون أنه استـُشهد فى الحرب التى أطلق عليها (حرب الاستنزاف) 40ضابطـًا وجنديًا روسيًا واستـُشهد فى دهشور ثلاثة مستشارين روس ومترجم لم يُبالوا بتحذيرات صفارات الإنذار وواصلوا عملهم. وفى عام 56 طلب أحد المحيطين بعبد الناصرمن كاتب روسى إرسال مُتخصصين روس إلى القاهرة لتنظيم حماية أكثر أمنـًا لعبد الناصر وسرعان ما وصل مسئولان كبيران من المخابرات السوفيتية.
وعن الفترة السوفيتية ذكر بشاعة تحكم الحزب فى الكتب المسموح بقراءتها وأخرى الممنوعة للأدباء غير المرضى عنهم فكانت كتبهم ((تـُباع سرًا)) وقائمة المُبدعين المُضطهدين طويلة خاصة بعد حملة العداء للإبداع عام 37 وضرب مثلا بالشاعرة مارينا تسفيتايفا التى انتحرتْ عام 41. وعاصرتْ البطش الستالينى ورأتْ قمع السلطة للمُبدعين أمثال (أنّا اخماتوفا) التى تمّ إعدام زوجها الشاعر(جوميلوف) عام 21وتمّ اعتقال ابنها والتنكيل بها، وعاصرتْ انتحار الشاعر سيرجى يسينين عام 25 الذى ترك قصيدة قال فيها (ليس ابتكارً أنْ تموت. أنْ تحيا ليس أكثر ابتكارً) وبعد خمس سنوات انتحر مايكوفسكى فى عام 30 وترك رسالة قال فيها ((تحطم زورق الحب على صخور الحياة)) علمًا بأنه كان شاعر الطبقة العاملة. واتسع قلب الشاعرة تسفيتايفا للألم كأنما أصبح دفترًا تسجل فيه (هروب الشعر إلى الموت وغروب الأمل) وازدادتْ معاناتها بموت الشاعر أوسيب ماندلتشام عام 38 مريضًا فى معسكر اعتقال. ثم إعدام المخرج مائير خولد عام40. وعن حياة ومأساة الشاعرة تسفيتايفا كتب أ. الخميسى ((الشاعرة التى خايلها الأمل أنّ شعبها قادر على اجتياز المحنة ، لم تستطع هى ذاتها أنْ تتحمّل وطأة الثورة التى ابتلعتْ الشعراء فأنهتْ حياتها منتحرة)) ومن مساخر الحزب الشيوعى أنه بينما يضن على المبدعين لطبع أعمالهم كان يطبع ملايين النسخ من كتب سكرتير الحزب بريجنيف ويحصل على جائزة الدولة فى الأدب عما كتبه (وبالأدق عما لم يكتبه إذْ كان الجميع يعلمون أنّ هناك من يؤلفون له)
الترجمة على جثة النص :
فى فصل ممتع بعنوان (عاشتْ الترجمة ومات النص) ذكر تجربته مع الشعر الذى ((لا يقبل الترجمة. وأنّ ما يصل منه فى أفضل الأحوال هو المعنى العام)) أما (روح الشعر ونبض الشاعر) فيستحيل ترجمته. وأنه هو شخصيًا بعد أنْ ترجم بعض أشعار بوشكين لم يرض عن ترجمته فكتب ((بالروسية تحس بوهج الشعر وألقه وحرارته. وبالعربية لا شىء رغم دقة المعنى. كانت الترجمة أشبه بصورة جامدة لوجه حى : دقيقة لكن لا تنطق، لا تعبر. لا تختلج ملامحها بأى ارتعاشة ملهمة. وا غضبنى أنْ تـُصبح ترجمتى نعشًا لقصيدة أمير الشعراء الروس)) ولذا قرّر عدم ترجمة الشعر، وفضّل ترجمة القصص. وفى هذا الفصل ضرب أمثلة من عيوب الترجمات التى تكتفى بالنقل الحرفى مع التغاضى عن مفردات الواقع والثقافة القومية لكل شعب. لذا اهتم أ. الخميسى بترجمة النصوص غير الإبداعية فترجم نصًا نادرًا لتجربة قام بها تشيخوف الذى سمع عن جزيرة سخالين وما يجرى فيها من حياة لا إنسانية حيث يتم استخدام المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة فى تعمير المناطق المهجورة. وأنّ سخالين موضع لعذاب لا يُطاق حيث ملايين البشر الذين يتعفنون هناك فى السجون ، فتكفل تشيخوف بالسفر إلى تلك الجزيرة وأصدر عنها كتابًا رغم معاناته بسبب السل. لذا حرص الخميسى على ترجمته. ويكفى الإشارة إلى تلك السيدة التى لحقتْ (باختيارها) بزوجها المحكوم عليه فكان نصيبها إشباع حاجة ثلاثين مجرمًا ، فكتب تشيخوف ((جاءتْ لكى تتدارك حياة زوجها ففقدتْ حياتها هى . ومن هذه الزاوية تشغل سخالين موقعًا متقدمًا بين المنافى كلها عبر التاريخ))
وعن التنوع الثقافى مع الاعتزاز القومى قال الخميسى للشاعر حمزاتوف (تعيش فى داغستان عشرون قومية لكل منها لغتها الخاصة. ألا تحلم بأنْ يحل يوم تتكلم فيه داغستان لغة واحدة؟)) ردّ عليه ((عشرون لغة. السماء مليئة بالنجوم فهل تصبح السماء أجمل إذا نحن جمعنا النجوم كلها فى شمس واحدة؟ لم لا ترى جمال التنوع؟) ومن أشعاره (نجوم كثيرة وقمر واحد.. نساء كثيرات وأم واحدة.. بلاد كثيرة ووطن واحد) وعن التغير بعد سقوط الاتحاد السوفيتى قال ((لقد تمّتْ الجريمة الكبرى على يد جورباتشوف ثم يلتسن. انتهتْ الاشتراكية والدكتاتورية برحيل بريجينيف . لكن السوق والديمقراطية مع جورباتشوف ويلتسن لم تأتنا بخير.كان الناس فيما مضى يشعرون بوطأة الكذب والخداع ، أما اليوم فيشعرون بالكذب والخداع والقسوة والكراهية والحرب. المأساة أنهم نفس الممثلين القدامى وقد غيروا الأقنعة وشرعوا يقومون بأدوار جديدة. لقد وُلدت شمولية جديدة بديلا عن الشمولية القديمة))
المثقف والسلطة :
يختلف البشر فى قدرتهم على الصمود أمام الاختيار بين بطش السلطة أو إغراءاتها. اختار الأديب أيتماتوف الطريق الثانى. فى عام 37 كان فى التاسعة من عمره عندما اعتقل النظام والده وأعدمه بعد ذلك بسنة أثناء سنوات مطاردة الأدباء. اختار أ. الخميسى ذاك الأديب ليكون مدخلا لعلاقة المثقف بالسلطة. وكتب عنه (كان أمامه طريقان : إما أنْ يصبح محتجا ثائرا يُجاهر بعدائه للسلطة.. فيُحرم من أية فرصة للكتابة والنشر، وقد يتعرّض لمصير والده، أو يخفى ذلك العداء فى أعماق نفسه ويقول كلمته بطريقة أخرى. وأظن أنه التزم الطريق الثانى وأنّ الحذر رسم خطواته) لذلك فاز بجائزة لينين عام 63وانخرط فى صفوف النظام فأصبح عضوًا فى مجلس السوفيت الأعلى وفى اللجنة المركزية للحزب الشيوعى القرغيزى ثم تقلد منصب مستشار الرئيس جورباتشوف. وحرصتْ السلطة على ترجمة أعماله إلى 150لغة. وذكرأ. الخميسى أنّ أيتماتوف لم يكن الكاتب الوحيد الذى وقع بين مطرقة الستالينية وسندان البيروقراطية السوفيتية. كان هناك أدباء آخرون أجبرتهم السلطة على الصمت لكنهم لم يتطوعوا بقول ما لا يعتقدون مثل ميخائيل بلجاكوف مؤلف الرواية المذهلة (المعلم ومرجريتا) ولأنه ترفع عن إغراء السلطة ولم يخش بطشها دفع ثمن موقفه فظلت رواياته حبيسة خزائن اتحاد الكتاب السوفيت أكثر من ربع قرن، ورغم ذلك شقتْ أعماله طريقها إلى النور. وإذا عدنا إلى أيتماتوف فإنه مع بوادر انهيار الدولة السوفيتية تحدث عن ((الأخطاء الاستعمارية لموسكو فى قرغيزيا)) عندما أصبح إطلاق مثل هذه التصريحات لا تكلف المرء شيئا. وعلى النقيض تمامًا منه يختارأ. الخميسى الأديب الكسندر سولجينتسين الذى اعتقل عام 45 وكان برتبة نقيب فى الجيش بسبب نقده لستالين والقيادة السوفيتية، فحُكم عليه بالسجن 8 سنين . ورغم شهرته العالمية فإنّ السلطة السوفيتية رفضتْ أنْ تنشر له حرفـًا خاصة الفترة من 58- 67. وفى عام 69تقرّرطرده من اتحاد الكتاب السوفيت وبعدها بعام نال جائزة نوبل فقال بريجينيف فى اجتماع للمكتب السياسى للحزب ((صدرتْ رواية جديدة لسولجينتسين بعنوان أرخبيل جولاج (جزر المعتقلات) {التى رصدتْ التنكيل السوفيتي من عام 18- 56} ومثل أى رئيس دولة مستبد واصل أكاذيبه بإدعاء أنّ أحدًا لم يقرأ الرواية. وقال ((إنه هجاء فظ للسوفيت. ومن ثم فإنّ لدينا كل المسوغات الكافية لنضع سولجينتسين فى السجن، فقد تجرّأ على تاريخنا السوفيتى وعلى السلطة. لقد تمادى كثيرا هذا العنصر المعربد المسمى سولجينتسين)) بعد دقائق من خطاب الرئيس تم القبض على المُبدع يوم 12 فبراير74 وكان فى السادسة والخمسين من عمره بتهمة (خيانة الوطن) وفى عام 90أعيد له الاعتبار والجنسية. وفى سبتمبر من ذات العام أصدر كتيبًا بعنوان (كيف نعيد بناء روسيا) تم توزيع 27مليون نسخة فى روسيا فقط . وكتب فيه عن ضرورة إحياء القومية الروسية. وظلّ يتأمل تجربة الإصلاحيين الذين قوضوا الدولة السوفيتية فيصطدم بعدد الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر(40مليون) وأنّ الخصخصة لم تكن سوى نهب للاقتصاد الروسى وبيعه بأرخص سعر للعصابات المحلية وللأجانب. لذا أدلى بحديث لصحيفة موسكو فسكى نوفستى قال فيه ((إنّ عملية إنقاذ الدولة المنهارة فى عهد جورباتشوف لم تتضمن سوى إسقاط مفهوم الدولة لا أكثر.أما عهد يلتسن فإنّ الإصلاحات لم تتجاوز الفوضى ونهب ثروات البلاد. وتحدث عن ارتفاع نسبة الوفيات إلى أنْ قال ((لم يتمكن حتى الشيوعيون على مدار70سنة أنْ يفعلوا بروسيا ما ارتكبه الديمقراطيون الجدد فى حقها)) وفى عام 96منحه يلتسن أعلى وسام فى الدولة ، فرفضه وأرسل برقية إلى الرئيس ونشرتها الصحف قال فيها ((اعتذر عن قبول وسام من سلطة قادتْ روسيا إلى الخراب)) فكانت النتيجة التجاهل الرسمى له ولكنه لم يهتم. وفى يونيو2006 أدلى بحديث صحفى أثار غضب الغرب عليه إذْ قال إنّ ((حلف الناتو يُضاعف قواه العسكرية فى شرق أوروبا. ويمد يده إلى وسط آسيا مُستهدفــًا حصار روسيا وسلب سيادتها)) وبدلا من أنْ تقف الصحف الروسية معه إذا بها تشن عليه حملة مسعورة وأنّ موقفه ((خيانة وعودة للنغمة السوفيتية)) وعندما مات فى عام 2008 اضطر الرئيس بوتين أنْ ينعيه فى برقية قال فيها (إنّ الشعب الروسى كله ونحن الذين عاصرناه نشعر بالفخر لأنّ سولجينتسين كان ابنــًا لشعبنا) كما كتبتْ عنه الصحف العالمية كلها فتصفه التايمز بأنه (ضمير أمة) وكتبتْ الديلى تلجراف أنّ عداءه للاتحاد السوفيتى لم يُحوّله إلى نصير للنظام الأمريكى))
لخـّص أ. الخميسى فى كتابه الشيق والممتع 90سنة من عمر الشعب الروسى بين نظاميْن ، وحرص على أنْ يكون (كشافه) على المُبدعين : البعض يسجد على بلاط السلطة ، والبعض تكون قبلته الوطن ومرجعيته العقل والضمير.