القاهرة 02 مارس 2015 الساعة 12:26 م
مثير ومزعج الوضع الراهن المحيط بقضية التطرف الإسلامي، خصوصاً ما يتصل بإرهاب «داعش» وإخوته وأبناء عمومته. الأشد إثارة والأكثر إزعاجاً في هذا الوضع هو هذه الدرجة المرتفعة من اللامبالاة الرسمية والشعبية على حد سواء، أو هذا المستوى من عدم تناسب الاهتمام العام مع تطور على هذا القدر من الوحشية ومن الخطورة، ليس فقط على المستقبل السياسي للعالم العربي والشرق الأوسط ولكن أيضاً على مستقبل الإسلام وموقعه بين العقائد الكبرى ودوره في السياسة الدولية.
يختلط في ذهن المراقب لحال الأمة هذه الأيام ضعف الاهتمام العام بقضية التطرف مع الصعوبات التي تواجهه خلال محاولاته فهم حقيقة ما يحدث من حوله من تطورات ومواقف سياسية. لم يدر بخلد أحد أن يوماً سيأتي نرى فيه رئيس الولايات المتحدة يقف في بلاده متهماً بالدفاع عن الإسلام كدين في مواجهة حملة شرسة ومتصاعدة تستعيد كل حجج وروايات كراهية الغرب للإسلام والمسلمين. وهنا نقف حيارى أمام مشقة فهم الصمت الطويل الذي لازم نشأة «داعش» ونموه وتدريبه وتسلحه.
يسأل شباب العرب أين كانت حكوماتهم؟ ولماذا لم توقف هذا النمو عندما كان التنظيم وحشاً صغيراً في المهد؟ لا مؤامرة ماسونية أو صهيونية أو أميركية، ولا عذر يمكن أن يبرر صمت الحكام العرب وحلفائهم في الغرب. هؤلاء الشباب الذين يغرقون أمثالنا من أصحاب القلم بالأسئلة سعياً وراء فهم أفضل، لا يصدقون أن الأجهزة الحكومية والدولية التي تتجسس على رسائلهم الإلكترونية وتراقب تحويلاتهم المالية وتستمع إلى محادثاتهم الهاتفية وتتعقبهم وتحبسهم وتعذبهم عندما يتجاسرون فيعلنون عن أحلامهم في أن يحيوا حياة كشعوب أخرى تحررت من الجهل والمرض والفساد، هؤلاء الشبان لا يصدقون أن هذا المارد المتطرف والمتوحش خرج من قمقمه من دون مساعدة من تحالف مصالح أو تهاون إدارات أو غباء سياسات أو كلها معاً.
هل يعقل أن يولد هذا الخطر وينمو ويبدو وكأنه يهدد دولاً قائمة بينما الخلافات العربية على حالها، بل تزداد تدهوراً؟ أعذر الشبان العرب الذين فاض بهم الكيل وهم يتابعون أخبار فشل الديبلوماسيين العرب في صياغة موقف موحد في مجلس الأمن أو خارجه. نعذرهم ونحن نراهم حيارى يقارنون بين تركيا وإيران كأمل يتعلقون به بعد أن بلغ بهم اليأس مراتب الرفض والإنكار والهجرة، وبلغ عند بعضهم حد الاستسلام بالانضمام إلى قوى التطرف وسلوك مسالك العنف المتوحش، أما غالبيتهم فقد انضموا إلى ملايين اللامبالين بعد أن فقدوا الأمل في أن يفهموا حقيقة ما يحدث على أرض الواقع. يسألون عن قيمة مؤتمرات دولية وإقليمية تجتمع لتكرر ما سبق أن قيل على امتداد عقود ثلاثة أو أربعة. يسألون عن المعنى وراء إصرار سياسيين من القادة الكبار على التمسك بنبوءاتهم عن هذه الحرب التي سوف تمتد طويلاً، حرب أحد طرفيها دول جيوشها هي الأقوى في التاريخ وطرفها الثاني بضع مئات أو آلاف من أفراد يحتمون وراء دفاعات هزيلة بكل المعايير. يسأل الشباب عن أموال تتدفق من دول عربية ومتطوعين يعبرون حدود أكثر من دولة لينضموا إليهم، بينما الدول تتكتل في حلف ثم آخر لم يحقق واحد منها حتى الآن نصراً له أي قيمة.
كثيرة ولا شك هي الأسباب وراء هذا الضعف في الاهتمام المتناسب مع خطورة الوضع، أهمها من وجهة نظري هي الأسباب التالية:
أولا: الصورة المعقدة للوضع السياسي الراهن في المنطقة العربية، وفي الشرق الأوسط بشكل عام. الأصل في صورة المنطقة كما هو معروف عبر القرون العديدة هو التعقيد. هذا الأصل أضيفت إليه تعقيدات أحدث وأشد صعوبة كانت الخريطة السياسية العربية الملغومة بمشاكل حدود وأقليات وولاءات عابرة لهذه الحدود، صعبة على فهم الأجانب وكثير من أهلها. هذه الخريطة نفسها، وبشكل خاص في بعض أهم أجزائها، صارت كما نراها الآن، أشد تعقيداً وأصعب على الفهم.
ثانيا: سوء أداء العدد الأعظم من أنظمة الحكم العربية، والأدهى هو الاعتقاد السائد بأن لا حكومة عربية واحدة قادرة على حماية شعبها بقدراتها الذاتية، بل أن هذه الحكومات عاجزة حتى عن تشكيل حلف أو قوة دفاع غربية أو إقليمية قابلة للتصديق قادرة على حماية شعوبها في مواجهة قوى الحداثة والتغيير أو قوى التكفير والتخلف.
ثالثا: ما زالت المنطقة العربية تغلي بالأفكار التي أطلقتها ثورات الربيع العربي. يخطئ القادة السياسيون خطأ جسيماً إذا استمروا يعتقدون أنهم نجحوا في إطفاء الثورات وقمع أفكارها ووأد آمال ملايين الشباب العرب التي أيقظتها تلك الثورات. لا شيء يحدث أو حدث بالفعل خلال السنة أو السنتين الأخيرتين يقنع الشعوب العربية أن حكوماتها استفادت من درس الربيع، بل يوجد من يقول إن اللامبالاة السائدة أو ضعف الاهتمام الشعبي إنما يعكسان شماتة الناس عامة التي تقول دعونا نرى كيف ستتصرف الحكومات من دوننا في مواجهة هذا العدو المستقوي بعجزها وفي نيته إقامة «دولة الخلافة» على أنقاض دول «سايكس بيكو».
رابعا: لا يزال للصدمة الناتجة من هزيمة الجيش العراقي وانسحابه من المواجهة مع تنظيم «داعش» وقع ثقيل على النفس العربية في كل مكان، ولم يقع حتى الآن، على رغم مرور وقت غير قصير على هذا الانكسار ما يخفف من ثقل هذا الوضع. لم يقع انتصار ملموس على قوى «داعش» سوى أعمال متفرقة من جانب مسلحي الأكراد في شمال سورية. هذا التقاعس من جانب العرب عامة يرجح في نظر الشباب العربي فكرة أن الوضع الراهن قد يستمر وقتاً طويلاً، كما سبق أن تنبأ الرئيس أوباما وكبار مساعديه، ويرجح الاعتقاد أن لا أمل يتحقق قريباً يجدد ثقة العرب بأنفسهم أو بقياداتهم. نذكر جيداً أن شيئاً مماثلاً وقع قبل أربعين عاماً في أعقاب صدمة 1967، واستمر إلى يومنا هذا يحدّ من طموحات المصريين وعرب كثيرين وآمالهم، وعلى رغم الانتصار النسبي الذي تحقق في 1973 ما زالت صدمة 1967 تلعب دوراً أساسياً في رسم السلوك السياسي العربي وسلوكيات المصريين خاصة، ويخشى أن يكون للصدمات المتلاحقة التي تصيب العرب في كل موقع الآن أن تلعب الدور نفسه في دعم حالة الاهتمام غير المتناسب مع خطورة الوضع العام في العالم العربي.
خامساً: لم يقتصر سوء أداء الحكومات العربية على الجوانب السياسية والعسكرية في المواجهة الناشبة مع قوى التطرف، فقد بدا واضحاً عجزها في حل المشاكل الإنسانية المترتبة على توسع الإرهاب وغاراته على مدن وقرى في سورية والعراق وليبيا وتهديده المتعاظم لمصر في الداخل والخارج. كذلك يبدو العجز فاضحاً عندما يتعلق الأمر بوقف تدفق الأموال والأفراد عبر حدودها ومصارفها، وعندما يتعلق الأمر بجدية الدخول في مواجهة فكرية أو عقائدية مع قوى الإرهاب الإسلامي المسلح.
سادسا: الناس في عالمنا العربي منشغلة بقضايا حيوية أخرى عديدة وشديدة التعقيد، تجعلها لا تهتم الاهتمام المناسب بالزحف الإرهابي. هناك قضايا متعلقة بالصراعات الطائفية والعرقية والقبلية، وقضايا متخلفة عن عهود ما قبل ثورات الربيع العربي، وقضايا فقر وجهل ومرض، وقضايا فساد رهيب وسوء إدارة وسوء حكم، وقضايا تخلفت عن ثورات الربيع. لسنا أمة وحيدة أو فريدة في هذا الشأن، ولكننا بالتأكيد أمة معقدة التركيب والتكوين والتطور.
سابعاً: لا إجماع تحقق ولا إجماع يبدو على طريق التحقق، فقدنا بعض عناصر تكوين الأمة الواحدة، أدرنا ظهورنا للعروبة كفكرة جامعة موحِّدة، والآن نفتقر إلى الدين، حين جعلناه سبب انقسام بدلاً من أن يكون عنصر وحدة وتجمع، فمن دواعي السخرية أن تكون فكرة الخلافة التي يدعو إليها «داعش» وغيره دعوة إلى التقسيم وليس إلى لمِّ شمل الأمة الإسلامية، وأن تكون فكرة الخلافة قصراً على فرع بعينه من فروع الأمة. إنها دعوة إلى حرب تقسيم وليست دعوة إلى حرب توحيد أو -وهو الأخطر- دعوة إلى التوحيد القسري المؤدي بالضرورة الى صراعات دموية لا نهاية لها.
ثامناً: قليلون في العالم العربي الذين لم تصبهم بداء اللامبالاة أو ضعف الاهتمام المواقفُ المتناقضة من معظم الحكومات العربية تجاه الولايات المتحدة الأميركية. يكاد الاعتقاد في نظريات المؤامرة يهيمن على عملية صناعة القرار السياسي في عدد كبير من الدول العربية. لا جدال كذلك في أن عدداً متزايداً من إعلاميي الحكومات صاروا يهربون من جهد التحليل المتزن والتوجيه العاقل إلى كسل الاعتقاد بوجود مؤامرة عظمى تستهدف جميع شعوب الشرق الأوسط وتراثه وثورات ربيعه وأحلام نهضته. في الوقت نفسه، تسعى هذه الحكومات سعياً لا يتوقف إلى عقد تحالفات ومعاهدات وإقامة علاقات استراتيجية مع هذه الدولة الأعظم التي تقود، في نظرها، محاولات إثارة القلاقل وعدم الاستقرار.
لا أمل في ظني في تحقيق انتصار حاسم على قوى الإرهاب في الشرق الأوسط إلا عندما تصبح قضية الإرهاب قضية قومية، أي عندما يتفق كل القوى العربية على ضرورة إعادة خلافاتها وانقساماتها إلى وضعها الثانوي، والانتباه إلى ضرورة تركيز اهتمام الشعوب وقياداتها على القومي والمشترك من القضايا، ولتبدأ السير من جديد على طريق العروبة.
* كاتب مصري