القاهرة 25 فبراير 2015 الساعة 03:28 م
استدعاني الشاعر فؤاد حجاج ، مع نفر من المضروبين بمحبة الأدب والفن ، المنشغلين والمشتغلين بهما ، من جيرانه وأصدقائه وأبنائه الذين يشكلون حلقة نقدية " من منازلهم " في بهتيم وضواحيها .
استدعانا الشاعر على عجل ، دون أن يذكر لنا سبب الاستدعاء ، لكنَّا بحكم العادة كنا نعرف ، فلم نضرب أخماسا في أسداس ، وسرعان ما خمَّنا السبب ، فتلك عادته حين ينتهي من عمل جديد، يرى بحاسته الفنية المُجَرِّبة وخبراته الطويلة في الحرفة، أنه عمل فارق ومهم .
لا يتحمل فؤاد حجاج الصبر لحين صدور عمله في كتاب، أو عرضه على خشبة المسرح، إذا كان نصا مسرحيا، أو على شاشة التليفزيون إن كان مسلسلا أو أغنية تتر .
يحب حجاج أن يرى صورة عمله في أعين نقّاده المقربين أولا ، حتى يطمئن . يعرف تماما أنهم لن يكتموه رأيا وأنهم سيكونوا مرآته الصادقة التي يرى على صفحتها مشروع نصه الجديد، بما له، وما عليه ، وما بين هذا وذاك .
كثيرا ما تمتلئ حجرة مكتب حجاج بهذه الوجوه التي قلما يتغيب منها أحد في مثل هذه الظروف ، تلك المجموعة من الأصدقاء التي يطلق عليها عم فؤاد ضاحكا : اسم " اللجنة النقدية الدائمة لفك وتركيب وتوصيل الشفرات للمنازل " !
تجتمع هذه اللجنة عادة كلما حدث لأحد أعضائها الحادث السعيد ، والحدث السعيد في عُرف أعضاء هذه اللجنة الموقرة لا يخرج عن : كتابة قصيدة أو قصة جديدة ، أو مسرحية، أو رواية، حيث يقوم صاحب الحدث السعيد باستدعاء اللجنة للانعقاد بشكل عاجل ، و إعلانها بموعد الانعقاد ، الذي غالبا ما يكون طارئا ، حيث لا يعرف أى من أعضاء هذه اللجنة الدائمة متى وأين سيرزق بالحدث السعيد ، أما عن المكان فهو معروف طبعا .. منزل عمنا فؤاد حجاج ، وفى حجرة مكتبة التي أكلت منا راقات، ووسط مكتبته التي تسربت مع مرور الوقت إلى بيوتنا ، بمعرفة الأستاذ طبعا، وبمباركته .
بعد أقل من نصف ساعة من الاستدعاء كنت جالسا أمامه، أستمع مع بقية الأصدقاء الذين وصل بعضهم قبلي ، ووصل بعضهم بعدى إلى مفاجأة عم فؤاد الجديدة التي استدعانا من أجلها هذه المرة : ( زقاق المدق ) ليست رواية معلمنا نجيب محفوظ بالطبع ، بل الأوبريت الغنائي الذي كتبه حجّاج عن الرواية ، وكتب على غلافه " رؤية وصياغة شعرية " .
نعرف جميعا ـ كما يعرف القارئ ـ مدى شغف فؤاد حجّاج ، وغرامه بشخصيات وعوالم نجيب محفوظ ، منذ كتب قصيدته الدرامية الطويلة " محاكمة شخصيات نجيب محفوظ " التي صدرت في طبعة خاصة عام 1988 وأعيدت طباعتها عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2003 ، وهو الغرام الذي أكده حجّاج بعمله الثاني الذي استلهمه من محفوظ أيضا (كان ليه ياعم نجيب ) الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 2008 ، وهو الغرام نفسه الذي دفع المخرج احمد صقر والسيناريست محسن زايد ، والغواص فى بحر النغم عمار الشريعي للاستعانة بالشاعر لكتابة كلمات تتر المسلسل الشهير " حديث الصباح والمساء " الذي غنته أنغام ، فحقق مع المسلسل نجاحا مدويا .
كلنا نعرف غرام حجاج بعميد الرواية العربية ، غير أنه لم يكن يخطر ببالنا أن يصل غرام الشاعر بالروائي الكبير إلى حد تحويل " زقاق المدق " إلى أوبريت غنائي ، وهو ما أنجزه حجاج ، في خطوة أحسبها مهمة وجديدة في التعاطي مع المتون المحفوظية التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب ؛ حيث لم يسبق حجاج على هذا الدرب سوى الشاعر سيد حجاب ، الذي أعاد كتابة رواية " ميرا مار " للأوبرا ، لتقدمها أصوات مصرية بلكنة أوبرالية كلاسيكية ، تشعر معها بالغربة حتى عن نفسك ، ليس عن عالم محفوظ وحاراته فقط ، وهى التي تم عرضها على خشبة مسرح دار الأوبرا المصرية منذ أكثر من عامين أو ثلاثة تقريبا .
( زقاق فؤاد حجاج ) يختلف كثيرا ؛ حيث كتبه كأوبريت غنائي من الأول للأخر، يتمثل أصواتا معجونة بطين الحارة المصرية وعبيرها أيضا ، لتؤدى شخصيات حميدة وأم حميدة وعباس الحلو والمعلم كرشة وزيطه صانع العاهات وغيرها من شخصيات الزقاق .. وهو ما غاب عن مسارحنا منذ سنوات طويلة .
كان حجاج يلقى نصه من الوضع واقفا، يؤديه غناءً وإيماءً ، يتمثل الشخصيات ، ويستحضرها، ينطق بألسنتها، يوحى بحركاتها ، وسكناتها ، يمسك بتلابيبها، وعلى الرغم من اهتمامه بعنصر الموسيقى الضروري للغناء ، فإنه لم يُفلت الجانب الدرامي الحي فى تشكيل شخصياته ، كما لم يفلت حبكته وبنيته الدرامية ، فجاءت مشدودة ومتماسكة، الجمل قصيرة ، والمشاهد على القد ، يسلم بعضها إلى بعض في سلاسة ، ودون ترهل أو لي عنق .
تعبنا ولم يتعب حجاج ، كنا مشفقين عليه :
ـ لماذا لا تجلس يا أستاذ ؟
يقولها أحدنا بين حين وآخر .
يبتسم حجاج ويكمل مستمتعا بكل حركة يتحركها مولوده الجديد ، تبرق عيناه بالفرح ، ينظر إلينا ، يتلصص على وجوهنا ليرى أثر ( زُقاقِه ) في أعيننا ، يفرح كطفل بتأوهات وكلمات الاستحسان التي تصدر من أحدنا بين الحين والأخر ، فيزداد طربا .
ما ألطف الشاعر وأرقه وهو يلقى قصيدته الجديدة على أصدقائه .. يأتنس بهم ، في أحب المواقف إلى قلبه .
تحدثنا كثيرا بعد ما فرغ الشاعر من القراءة ، وبعدما استراح أخيرا من فيض انفعاله .
بصم الجميع على جمال الأوبريت، واعتبرناه تجربة مهمة بغير شك ، أجاد الشاعر نسجها بحرفية كبيرة، وبوعي مرهف وإحساسٍ عالٍ بعالم الروائي الكبير، ، غير أن سؤالا أطل برأسه ، وقفز سريعا ليتربع على المائدة الصغيرة التى كنا نتحلق حولها ، سؤالا ذهب بسكرة الجلسة ، وجاء بالفكرة : أين سيقدم هذا الأوبريت .. خاصة وأن مسارحنا لم تعد تُقبل على تقديم مثل هذا النوع من العروض الغنائية ؟ وقبل أن يفقد حجَّاج فرحته بمولوده الجديد على أثر حيرة البحث عن جواب للسؤال ، بادر أحدنا باقتراح تأجيل الحيرة والاكتفاء بالفرح بالمولود الذي بين أيدينا ، وهو ما وافقنا عليه جميعا .. غير أنى لمحت السؤال يطل برأسه مجددا ، بعدما قمنا بطرده بلا رحمة ، كان ينظر إلينا من أحد الشقوق التى لجأ إليها، وعلى وجهه شبح ابتسامة ، ابتسامة ساخرة ومتألمة أعادتنا مرة أخرى إلى حالة الغضب التى تركتنا عليها أغنية " الفينال " بعد أن فشل عباس الحلو في إعادة حميدة إلى الحارة ، وقُتل بيد السكارى فى "الكبارية" الذى تعمل به ، يقول حجاج :
هى هي ولا اختلف
تاريخها من سالف سلف
أيام تعيد فى بعضها
وناس كتير على أرضها
عايشين ما عارفين فضلها
وناس ما جالهم ضلها
وبرضوا حلموا لأجلها
الحلم بشويش اتنسف .
أوبريت "زقاق المدق" نشرته جريدة " مسرحنا "في مارس 2014 ، كما صدر مؤخرا على نفقة الشاعر .