القاهرة 19 فبراير 2015 الساعة 01:45 م
المفترض أنّ نواب الأمة يدخلون البرلمان للدفاع عن الشعب وليس قتله كما طالب البعض بقتل البهائيين ، ولكن تبيّن أنّ الواقع هزم (المُفترض) وقتل كل البديهيات. وإذا كان هذا هو مطلب البعض فى 2010فإنّ النواب المصريين فى 1879كانوا على فطرتهم التى لم تلوثها ألاعيب السياسة : أرادتْ سلطة الحكم ممثلة فى رياض باشا فض جلسات شورى النواب دون النظر فى الميزانية ، تلبية لرغبة إنجلترا وفرنسا لإعلان إفلاس مصر، فقال النائب عبد السلام المويلحى ((كيف ينفض المجلس وهو ينظرفى القانون الخاص بالشئون المالية ؟ إنّ الأهالى أنابوا عن أنفسهم نوابًا للدفاع عن حقوقهم ، فمن الواجب عرض جميع ما يتعلق بالأهالى على نوابهم لينظروا فيه ويتدبروه ومن المستحيل أنْ ينفض المجلس. إننا سلطة الأمة ولن نخرج من هنا إلاّ بقوة الحراب)) تصوّر رياض باشا أنّ المويلحى يُعبر عن موقف شخصى فقال يُخاطب باقى النواب ( ( أظن أنّ حظرات إخوانك لا يوافقون على ما تقول)) فاندفع الأعضاء يؤيدون موقف زميلهم فصاح رياض باشا ((يعنى حظراتكم تـُـقلــّدون نواب فرنسا الذين ثاروا على حكومتهم؟ يعنى حظراتكم الآن بعمائمكم وجببكم مثل نواب أوروبا وأمريكا؟)) فردّ عليه النائب أحمد العويسى ((ياباشا أنت الآن تشتم نواب أمتك التى تـُعطيك أنت وغيرك مرتباتكم الشهرية)) وقال النائب عبد الشهيد بطرس ((إنّ كلامك هذا وقاحة والمجلس لا يقبل هذه الوقاحة من ناظر الداخلية بل يردها عليه)) وقال العضو أحمد الصوفانى ((أوافق العضو على رد الإهانة للناظر حتى يعلم أنّ فى البلاد أمة حية ولها نواب يُدافعون عن كرامتها)) فقال النائب المويلحى (أسمعتَ ياباشا ؟ أرأيت عاقبة تسرعك فى الكلام؟ إعلم أنّ المسألة ليست مسألة زى وثياب ، بل مسألة نواب لهم عقول تفهم جيدًا رغبات الأمة التى أنابتهم عنها. أليس من العيب أنْ تكون وزيرًا فى وزارة يُزاملك فيها وزير إنجليزى وآخر فرنسى ، وهما فى الحقيقة خفيران عليكم وعلى الحكومة؟)) وكان آخر المتحدثين النائب حسن عبد الرازق الذى قال (ما قاله المويلحى يُعبّرعن أفكارنا جميعًا)) فصاح النواب (موافقون.. موافقون) (عبد الرحمن الرافعى- عصر إسماعيل- ج2- ط عام 1948من ص177- 188)
ويستمر التطور ففى جلسة 4/10/1881 رفع شريف باشا إلى الخديو توفيق تقريرًا تضمن مطلب الأمة بشأن إنشاء مجلس نواب جديد ، ذكر فيه مزايا النظام الدستورى وضرورة إقراره فى مصر، ودعا إلى انتخاب مجلس شورى النواب على أنْ يكون (جمعية تأسيسية) تضع الدستور الجديد فوافق الخديو. وكتب عبد الرحمن الرافعى (ولا شك أنّ جعل انتخاب النواب موكولا إلى عمد البلاد ومشايخها فى المديريات يسهل على الحكومة السيطرة على الانتخابات وإملاء إرادتها فيمن يختارهم العمد والمشايخ ، ولكن شريف باشا حرص حرصًا شديدًا على أنْ تجرى الانتخابات حرة بعيدًا عن تدخل الحكومة. وأصدر مرسومًا بذلك إلى جميع المديريات والمحافظات نبّه فيه المديرين والمحافظين إلى ترك الانتخابات حرة. وهو أول منشور انتخابى فى تاريخ مصر الحديثة يقضى باحترام حرية الانتخابات العامة. وفى الحق إنّ الحكومة لم تتدخل فى هذه الانتخابات ، ولم تتعرّض لحرية الناخبين فى انتخاب من يريدون ، فكان الانتخاب حرًا بكل معانى الحرية. وكذلك كان حرًا من تدخل العرابيين وإملاء إرادتهم على الناخبين وترشيح أتباعهم . وكان فى استطاعة حزبهم باعتباره صاحب الفضل فى إنشاء مجلس النواب أنْ يتدخل فى الانتخابات ويُملى إرادته على الناخبين كى يضمن تأليف غالبية النواب من أتباعه ومرشحيه. ولو فعل ذلك لقضى على حرية الانتخاب قضاءً مبرمًا. ولكن حسنـًا فعل إذْ ترك الناخبين أحرارًا فى انتخاب من يأنسون فيهم الاستقامة والاخلاص والكفاية. فجاءتْ الانتخابات صورة صادقة لإرادة الناخبين . وضرب العرابيون بذلك مثلا رائعًا فى احترام حرية الانتخاب) (الرافعى- الزعيم أحمد عرابى- مطابع الشعب عام 1968ص77، 78) وذكر المؤرخ محمود الخفيف أنّ شريف باشا هو الأب الحقيقى للدستور، وأنّ (العهد الدستورى فى مصر يرجع إلى سنة 1879، وهذا الدستور إنما نالته مصر بجهاد بنيها . وما كان دستور23إلاّ الدستور الثانى للبلاد . وبعبارة أخرى ما كان إلاّ توقدًا لتلك الجمرة التى ظلتْ مطمورة تحت رماد الإحتلال) (أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه- ج1 دارالهلال يونيو71 ص48).
هذا ماكان فى الماضى ، فما هو سرالتغير الذى حدث ، من الدفاع عن الشعب إلى الرغبة فى التخلص منه عن طريق القتل الجماعى؟ ألا تستحق الظاهرة دراسة من المركزالقومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ؟ لقد تقـبّــل الشعب أشكالا من القتل مثل المبيدات المسرطنة والقمح الفاسد وشرب مياه المجارى إلخ ، فكيف وصل السيناريو لدرجة الدعوة للقتل الصريح؟ والمؤلم أنْ يُطالب أحد مقدمى البرامج فى فضائية مصرية باعتذار النائب (أو النواب) الذين طالبوا وزارة الداخلية بإطلاق الرصاص على المتظاهرين ، فينتهى الأمر. فكيف لمذيع لا يعرف أبسط قواعد القانون الجنائى؟ وأنّ التحريض على القتل (الفردى) يوجب المحاكمة ، فى حين أننا إزاء تحريض على القتل الجماعى . لذلك فإننى أرجو من المنظمات الحقوقية التقدم بطلب للنائب العام للنظر فى تقديم من صرّح بالتحريض على قتل أبنائنا إلى المحاكمة.
فى طفولتى سمعتُ حكاية (الدبة) التى رأتْ الذباب على وجه صاحبها. ولأنها صادقة فى حبها له قتلتْ الذباب وقتلتْ صاحبها بالحجر الشهير فى الحدوتة. وأعتقد أنّ مصر لن تخرج من النفق المُـظلم الذى تعيش فيه ، إلاّ بعد أنْ يكون لدينا نواب مؤمنون بمعنى (المواطنة) وأنه لا فرق بين مواطن وآخر إلاّ بعمله ، وليس بديانته ، بمراعاة أنّ الدين انتماء شخصى ، بينما الوطن هو الذى يضم جميع أبناء الأمة. ولذلك أرفض تمامًا اشتراك أى حزب على أسس من المرجعية الدينية (مثل حزب النور- نموذجًا) حتى لو تغطى بشعارات زائفة وادّعى أنه مع (الدولة المدنية) كما فعل أعضاء حزب الوسط .
***