القاهرة 26 يناير 2015 الساعة 01:46 م
لأول مرة في التاريخ الإنساني كله، يعلن شعب عن ثورته قبل موعدها بشهور .. حدث هذا من شباب مصر قبل يوم الثلاثاء الكبير في الخامس والعشرين من يناير 2011 ، ثم تكرر قبل ثورة 30 يونيو2013 ، وهي الثورة الثانية، وليست موجة من الثورة الأولى .. ولأول مرة أيضا يفجر شعب ثورتين في زمن لا يتعدى العامين ونصف العام .
لقد حدث ما حدث بعد الثورة الأولى 25 يناير 2011 وانتكاستها، وتأزم الأوضاع داخل مصر، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وحتى ثقافيا، وبدأ السطو العلنى على هويتها، وارتفعت الأصوات الغليظة، والفتاوى الجارحة لحرمة مصر، وتحركت قوافل "الأخونة " داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية، وتم توزيع الغنائم والأسلاب على الحلفاء من قوى التيار السياسي الإسلامي من " المتأسلمين " أو "الإسلامجية " لا فرق في التسمية، وتصدعت أركان وجدران المجتمع المصري، وحدث انقسام وشروخ ضربت بنيان وكيان الدولة التي فقدت هيبتها ودورها، وجعلنا من أنفسنا نموذجا للرثاء أمام العالم، حتى صدرت إحدى الصحف في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا بتاريخ 26 / 6 / 2013 بعنوان "مصر وسوريا .. تموتان"، والصحيفة تعنى أن مصر وسوريا وبأحكام التاريخ والجغرافية معا، هما ركيزة وقاعدة الأمة العربية، وأن " الموت " يحيق بمصير الأمة ! وإذا كان العامل المشترك بيننا وبين سوريا، أننا إقليم واحد في دولتين، فإن ما يحيط بنا من مشترك في الزمن الراهن، هو حركة جماعة الإخوان، ومن معها من العشيرة من جماعات وتنظيمات إسلامية، ومطامعها واحدة، في الإقليم الشمالي "سوريا "، والجنوبي " مصر "، وبالتنسيق مع قوى خارجية معلومة، وكل طرف حسب ما يريده ويطمح إليه !!
وحين كان السؤال الحائر والقلق يطرح نفسه: مصر إلى أين .. وماذا حدث ويحدث ؟! كانت أية محاولة للإجابة تؤدى بدورها إلى استنتاج أساسي وهو : أن هناك قصورا ليس فقط في الفعل الثوري، وإنما القصور تبدأ في الإدارة الارتجالية للمرحلة الانتقالية الأولى بعد ثورة 25 يناير، وأن أية جهود ـ ربما كل الجهود ـ كانت على مسار " بقاء الوضع كما كان الحال قائما" مع تغيير في واجهة السلطة فقط، أى إحلال نظام محل نظام تم خ
لعه، ودون السفر إلى المستقبل، وإذا كان التاريخ يتحرك، فإن السياسة عاجزة ! وكان اللامعقول في هذه الحالة كثير .. وكثير جدا !!
وفي هذه الأجواء وما حولها، كان الشعب المصري يشعر بأن مطالبه لا تلقى العناية الكافية، وأن الملايين التي خرجت
وعلى مدار المرحلة الانتقالية " الارتجالية " واستمرت نحو 16 شهرا، سقط عشرات الشهداء، وتكبد الاقتصاد المصري خسائر فادحة بلغت نحو 234,2 مليار جنيه ، ودخلت البلاد دوامة "متاهات" لا تعرف كيفية ولا وقت الخروج الحقيقي منها، وكان فيها من المجهول أكثر من المعلوم .. ثم كان غير المعقول وغير المقبول كثير جدا فيما بعد انتخاب أول رئيس بعد الثورة، وقد تصور كثيرون، أن روح التغيير قد خمدت، وأن طاقة البلد همدت وترهلت، وأن تقسيم الغنائم والأسلاب في الزمن القصير جدا من حكم جماعة الإخوان المسلمين قد أوشك على الانتهاء، وأن الكلمة العليا لازالت للدولة الأعظم " أمريكا " وبأكثر مما كان متصورا، وبأكثر مما هو صحي، بل وانزلقت أحوالنا إلى تلك الدرجة من تدخل وتأثير دويلات أو شبه دويلات في شئون مصر، وكأن الوطن قد هان على نفسه وعلى شبابه .. وحتى زحفت الملايين تعزل بالإرادة الشعبية، أول رئيس مدنى منتخب، بعد أن توالت مشاهد الإغارة على سلطة الدولة !! وصنعت ثورة 25 يناير 2011 ثم عادت إلى حياتها الطبيعية، بدأت ترى أن العمل السياسي الذي يجرى في العاصمة، هو سباق قوة مشغول بما هو فيه، وقد حدث هدر عقيم في العمل الوطنى، عوّقت حركته وأربكته، والنتيجة أن هذه الجماهير أصابها نوع من ضيق الصدر، ونفاذ الصبر، وبان قلقها، وقد هبّت رياح الخماسين على مناخ الثورة .. ثم جرت جهود حثيثة لتشويه صورة شباب الثورة، وربما بدأ هذا الخلل منذ أن تحسب المجلس العسكري الحاكم بأنه تلقف كرة النار بين يديه بعد الثورة، ثم أخذ يبحث عن مكان آمن يجنبه حرق نفسه ومجلسه الأعلى والبلاد، وبدلا من الاحتماء بالقرار الصحيح، لجأ إلى محاولة إرضاء جميع الأطراف .. وإن كان إرضاء الجميع غاية لا تدرك !!
وفي اللحظة التاريخية ــ وهي مكررة كثيرا في تاريخ مصر ــ وقف العالم مبهورا، يستشعر إرادة الشعب، خرج ، بجمعه، بأجياله، وبطبقاته، وبطوائفه، بل بالصبا فيه والطفولة، ملايين بعد ملايين، خرجوا إلى الشوارع والميادين العامة، يسحبوا الثقة من رئيس حكم مصر باسم جماعته وأهله وعشيرته ..
وهذه هي القيمة العظمى لهذه اللحظة.
وبقدر ما كان يوم 30 يونيو لحظة في تاريخ مصر المعاصر، شهدت الخروج الباهر غير المسبوق في التاريخ الإنساني كله، وأن يمد الشباب يده ليستعيد وطنه، بقدر ما كان هذا اليوم ، كاشفا وخطيرا في تاريخ هذا البلد، بعد أن تكشفت وتعرت وجوه " جماعة " نعرف تاريخها ونحذر منه، حين انزلقت ثورة 25 يناير في حضنها بدعم أمريكي، ومساع تركية، ومساندة مكشوفة من " قطر " !!
وبقدر ما كان يوم 30 يونيو شاهدا لموجة عاتية من " تسونامي بشري " غير متوقع، يزيح نظاما إخوانيا، ويعلن عن أمة استيقظت، وراحت تسترد ما سرق منها، بقدر ما كان هذا اليوم تسجيلا لحركة جيل من الشباب قاد معركة إنقاذ مصر، وفجر ثورتين في 29 شهرا، ومدّ يده فإستعاد وطنه، وأثبت بيقين لا يرقى للشك، أنه جيل لا يقبل سوى أن يعيش كما يتمنى، وأن لديه القدرة على كتابة التاريخ الحىّ لمصر .