القاهرة 15 يناير 2015 الساعة 02:10 م
كتبت : ميرفت عياد
إن المصريين هم الذين ابتدعوا الخيال الفنى من أجل تحقيق مشروعهم الحضارى والساعى إلى عمار وتعمير وطنهم مصر.وعندما شاهدت الشعوب المحيطة بمصر وزائريها وحتى غاصبيها الانجازات الفنية المعجزة للحضارة المصرية، إلى جانب إنجاز الثورة الزراعية وابتداع اللغة والكتابة وتشييد الأهرامات والمعابد، لم يكن أمامهم إلا أن ينبهروا بها ويستعيروها، دون أن يدركوا أساس قيامها ( العمل ) والهدف الحقيقى منها ( التعمير ). ومن هنا
جاء وصفهم لها فى عقائدهم دون تفسيرها واعتبروا إنجازاتها من أعمال السحر التى لا يمكن تفسيرها أوإدراكها. ولكن يجب أن ندرك جيداً الفارق بين الخيال الفنى والسحر والوهم .
هذا ما أوضحه الكاتب عبد العزيز جمال الدين الباحث والمحقق فى التراث المصرى فى كتاب "مصر ـ إسكندرية أوهام التاريخ والجغرافيا " الصادر ضمن سلسلة الهلال حيث يستعرض فيه الحكايات العجائبية عن مصر وإسكندرية ويردفها بما كشف عنه العلم الحديث من حقائق، تلك الحكايات التى تتناول النيل وقصة اكتشاف منابعه وسر فيضانه، إلى جانب مدن أشمون وأمسوس وأنصنا ودير الطير ومدينة الشمس ومدينة النحاس ومدينة هرمس، والتصورات عن الواحات وعين شمس، وإسكندرية ومناراتها وتماثيلها الخ.
وحاول المؤلف فى مقدمة الكتاب أن يكشف عن سر عجايب مصر التى أذهلت كل من غزاها أو أحتلها. لقد تخيل المصرى فى عقيدته أن فوضى الطبيعة تمثل له عنصر الشر الذى يجب عليه قهره، فبنى مشروع نهضته منذ القدم على العمل من أجل قهر الشر وتقديس الخير وذلك باستئناس البشر من غير المصريين والحيوان والنبات، وكذلك النيل باعتباره أهم عناصر الطبيعة المتمردة فى بلاده، فى نفس الوقت الذى كان يحاصر فيه العناصر الشريرة ليروضها ويطوعها لصالحه.
مشيرا إلى أن الأوهام نشأت فى ظل عصر كانت ثقافته ما تزال تدور حول الكشف عن حجر الفلاسفة وأكسير الحياة، وكانت الجغرافيا وقتها تسمى " عجايب البلدان ".واستمر هذا الميل حتى أيام ماركوبولوالذى ألف " كتاب العجايب " , وكانت ترسم على الخرائط الحيوانات الخرافية، ناهيك عن أخطائها فى تحديد مواقع المدن والجبال والبحار والأنهار خاصة نهر النيل .
موضحا أن الخيال يعتبر من الأمور الخلاقة المفيدة علمياً بالرغم من أنه لا يوجد له أى وجود مادى على سطح الكرة الأرضية. وعلى هذا المنوال من الخيال جاءت المعتقدات المصرية حول العالم والإنسان، فالتصور الأساسى فيها أن الحياة قد ظهرت من ماء المحيط الأزلى ( وهذا رغم خياله لا يبعد عن الكشوف العلمية الحديثة ) وقد طور الكهنة العلماء فى جامعات " أون " و" منف " و" أشمون " هذه الخيالات العلمية بأشكال مختلفة، وبالرغم من تعدد تصوراتها فى خلق الكون والعالم إلا أنه كان ثمة مشترك عام يتمثل فى البصمة القوية لنهر النيل وواديه والشمس، وهو ما كان الفلاح المصرى يرتبط بهم أشد الارتباط , ويشكل منهم عقيدته الأوزيرية التى تقوم على ثالوث أوزير مجسداً لماء النيل المقدس وزوجته إيزى والابن حور ممثلين للخير، وست، شقيق أوزير، ممثلا للشر ومجسداً للمستنقعات الموحشة وللصحارى الجافة التى تحاول دوماً الطغيان برمالها على الأرض المزروعة بيد المصريين أتباع أوزير، والصراع بين الخير والشر يتم بيد المصريين كتابعين لأوزير عن طريق تعمير الصحارى وواحاتها وصد زحف الرمال الشيطانية، وتجفيف منابع الشر فى المستنقعات خاصة فى شمال الدلتا.
هكذا عن طريق العمل المقدس ( فالعمل عباده ) يتم القضاء على ست وأتباعه ساكنى الصحارى والمستنقعات. وهكذا تتحول المخايلات الفنية للعقيدة المصرية إلى إنجازات مادية على أرض الوطن المقدس مصر بالعمل ، ومن هنا إذا نظرنا إلى الخيالات الجغرافية السابقة التى أخذناها من كتب التراث القديمة سنجدها تصف أوهام وعجايب دون أى هدف سوى المتعة، ولكننا سنجدها، فى ذات الوقت، شديدة التأثر بفنون التصوير والعمارة المصرية ، دون أن تدرك مغزاها داخل المنظومة الكلية للمخايلات المصرية.