القاهرة 18 ديسمبر 2014 الساعة 02:06 م
رافقتُ الأب أمادي إلى الحرم الجامعي لكي يودع العائلات هناك. كثير من أطفال الأساتذة تشبثوا به، وكأن كلما زاد تشبثهم به كلما أمكنه البقاء ولا يغادر نسوكا. لم نتحدث كثيراً في السيارة وإن غنينا معاً بالاجبو مع غناء الكورال بالمسجل.. إحدى هذه الأغنيات أزالت جفاف فمي، وقلت "أحبك".
استدار نحوي وعلى وجهه تعبير لم يسبق أن رأيته. كانت عيناه حزينتان دائماً. مال بجسده نحوي وضغط وجهه في وجهي. أردتُ أن تلتقي شفاهنا لكنه حرك وجهه بعيداً.
- أنت في السادسة عشرة، كامبيلي.. أنت جميلة.. ستجدين من الحب أكثر مما تحتاجين إليه في حياتك
لم أدر أأضحك أم أبكي.. لم يقل الصواب.. أبداً لم يقل الصواب.
عند عودتي سألتني العمة افيوما إذا كنت على مايرام. كانت تنظر إليّ ولسان حالها يقول إنني لست على مايرام.
- أمتأكدة أنك بخير؟
- نعم يا عمتي
- ابتهجي إذن.. ومن فضــلك صـــلي من أجــل أن أوفـق في مقابلة التأشيرة.. سأذهب إلى لاجوس غداً
غمرتني موجة حزن، وقلت:
- سأفعل يا عمتي
أعرف أنني لن أفعل.. لا يمكنني أن أصلي لكي تحصل على تأشيرة. أعرف أن هذا ما تريده، وأنها لا تملك خيارات أخرى أو أي خيارات أخرى. لكنني أجد نفسي لا أصلي لكي تحصل على التأشيرة.. لا أستطيع أن أصلي من أجل شيء لا أريده أنا.
كانت أماكا مستلقية على السرير في حجرة النوم تستمع إلى الموسيقى ومسجل الكاسيت بجوار أذنها. جلستُ على السرير وتمنيتُ ألا تسألني عن الوقت الذي أمضيته مع الأب أمادي. لم تقل شيئاً. فقد ظلت تهز رأسها مع إيقاع الموسيقى. بعد فترة قالت:
- كنتِ تصاحبين فيلا في الغناء
- أنا؟
- كيف يمكنني الحصول على أشرطة فيلا في أمريكا؟
أردتُ أن أخبر أماكا أنني متأكدة أنها ستعثر على أشرطة فيلا في أمريكا وأية أشرطة أخرى تريدها، ولكن لم أفعل.. ربما لأنني افترض بذلك أن العمة افيوما ستحصل على التأشيرة، كما أنني لم أكن متأكدة من أن أماكا ترغب في سماع ما أقول.
***
ظلت معدتي غير مستقرة حتى عادت العمة افيوما من لاجوس. كنا في انتظارها بالشرفة بالرغم من عودة التيار الكهربائي، وكان من الممكن أن نكون بالداخل نشاهد التليفزيون. لم تطلق الحشرات طنينها حولنا ربما لأن مصباح الكيروسين مطفأ، أو ربما كانت قد انتابها القلق. أحضرتْ أماكا المروحة الكهربائية التي أحدث أزيزها مع طنين الثلاجة بالداخل صوتاً موسيقياً. عندما توقفتْ السيارة في مواجهة الشقة، قفز أوبيورا وركض خارجاً.
- ماما.. كيف جرت الأمور؟.. هل حصلت عليها؟
قالت لحظة دخولها الشرفة:
- حصلت عليها
- أنت حصلت على التأشيرة؟
صرخ أوبيورا سريعاً، وردد تشيما قوله واندفع يعانق والدته. أماكا وجاجا وأنا لم نقف وقلنا مرحبا ً للعمة افيوما وراقبناها عند دخولها لتغيير ملابسها. خرجتْ سريعاً ترتدي دثاراً حول صدرها. جلستْ وطلبت من أوبيورا كأساً من الماء. قال جاجا:
- لا تبدين سعيدة يا عمتي
- أنا سعيدة.. أتعلم كم من الناس لم يحصلوا عليها؟.. امرأة كانت بجانبي بكت حتى خلتُ الدماء قد غاضت من وجهها. سألتهم: كيف ترفضون منحي التأشيرة؟.. أطلعتكم على ما لدي من مال في البنك.. كيف يمكنكم القول أنني لن أعود إلى نيجيريا؟.. لدي عقار هنا.. أنا أملك عقاراً. ظلت تكرر مرات قولها: لدي عقار. أعتقد أنها أرادت حضور زفاف شقيقتها في أمريكا
سأل أوبيورا:
- لماذا رفضوا منحها التأشيرة؟
- لا أعلم.. إذا كان مزاجهم معتدل سيمنحونك التأشيرة، وإذا لم يكن مزاجهم كذلك يرفضونك. هذا ما يحدث عندما تبدو بلا قيمة في عين شخص ما.. نحن مثل كرات القدم التي يمكنهم ركلها في أي اتجاه يريدون
- متى سنغادر؟
بصوت مرهق سألت أماكا. يمكنني القول الآن أنها لم تهتم بالمرأة التي بكت من قلبها أو بركل النيجيريين أو بأي شيء على الإطلاق. شربتْ العمة افيوما كل ما في الكأس قبل أن تتحدث:
- يجب علينا الانتقال من هذه الشقة في غضون أسبوعين.. أعلم أنهم في انتظار ألا أفعل حتى يرسلون رجال الأمن ليلقوا بأغراضنا في الشارع
في صيحة حادة، سألتْ اماكا:
- هل سنغادر نيجيريا خلال أسبوعين؟
- هل أنا ساحرة؟
كان ردها سريعاً وحاسماً وافتقدت نبرة صوتها حس الفكاهة. لم تشِ نبرة صوتها بأي تعبير سوى الإجهاد.
- عليّ أن أدبر نقود تذاكرنا أولاً.. ليست زهيدة الثمن. سأضطر أطلب مساعدة عمكم ايوجين.. لذلك أفكر في الذهاب إلى انوجو مع كامبيلي وجاجا ربما في الأسبوع المقبل. سنمكث في انوجو حتى نكون مستعدين للسفر، وهذا سيعطيني الفرصة لكي أتحدث مع عمكم ايوجين حول التحاق كامبيلي وجاجا بالمدرسة الداخلية
التفتتْ إلى جاجا وإليّ:
- سأقنع والدكما بأي طريقة ممكنة. عرض الأب امادي أن يطلب من الأب بينيديكت التحدث إلى والدكما أيضاً. أعتقد أن أفضل شيء لكما الآن هو أن تذهبا إلى مدرسة بعيدة عن المنزل.
أومأتُ برأسي. نهض جاجا وتوجه إلى داخل الشقة.
***
في آخر يوم للأب أمادي قبل رحيله، جاء في الصباح مرتدياً ثوبه الكهنوتي تصحبه رائحة الكولونيا التي اعتدتها حتى في حالة عدم وجوده، وابتسامة على وجهه الطفولي. تطلع إليه أوبيورا قائلاً بنبرة ضاحكة:
- من إفريقيا السوداء الآن يأتي التبشيريون الذين سيغيرون من أوضاع الغرب!
ضحك الأب أمادي:
- أوبيورا.. مهما يكن من ألقي على سمعك هذه الهرطقات، عليه أن يتوقف
نفس ضحكته أيضاً.. لا شيء يبدو قد تغير بعكس حياتي الجديدة الهشة التي توشك أن تتهشم إلى قطع. امتلأتُ بالغضب فجأة.. غضب غريب وعفي. دققتُ النظر في خطوط شفتيه أثناء حديثه إلى العمة افيوما وأبناء عمتي حتى أخفف من غضبي. أخيراً سألني أن أرافقه إلى السيارة.
- عليّ الانضمام إلى غداء مجلس الكنيسة الذي أعد أعضاؤه الطعام من أجلي. تعالي واقضي ساعة أو ساعتين معي أثناء قيامي بترتي
ب مكتبي في الكنيسة
- لا
توقف عن التحديق في وجهي
- لماذا؟
- لا.. لا أريد ذلك
كنتُ أقف مسندة ظهري إلى سيارته. تحرك نحوي ووقف أمامي، وقال:
- كامبيلي
أردتُ أن أسأله أن يقول اسمي بطريقة مختلفة لأن ليس لديه الحق في قوله بالطريقة القديمة. يجب ألا يكون أي شيء على حاله بعد الآن. كنت أتنفس من فمي. سألته:
- أول يوم أخذتني فيه إلى الإستاد.. هل طلبتْ العمة افيوما منك ذلك؟
- كانت قلقة عليك لعدم استطاعتك إجراء حديث حتى مع الأطفال في الشقق العلوية، لكنها لم تطلب مني أن أصحبك
أمسك بذراعي.
- أردتُ أن أصحبك معي، وبعد ذلك اليوم الأول، أردتُ أن أصحبك معي كل يوم
انحنيتُ لكي ألتقط من العشب سيقاناً رفيعة كالإبر الخضراء. قال:
- كامبيلي.. انظري إليّ
لكنني لم أنظر إليه. ظلت عيناي تنظران إلى سيقان العشب في يدي.. ربما تفسر لي لماذا رغبتُ في أن يقول لي انه لم يرد اصطحابي معه إلى الإستاد حتى أعدُّه مبرراً لكي أكون أكثر غضباً منه، وحتى لا تستبد بي الرغبة في البكاء. استقل سيارته وأدار محركها:
- سأعود وأراك في المساء
نظرتُ إلى سيارته، وهي تختفي عند المنحدر الذي يصل إلى إكيجيا ني أفنيو. كنتُ لاأزال أحدِّقُ في الفراغ عندما تقدمتْ أماكا مني ووضعتْ ذراعها بخفة فوق كتفي وقالت ضاحكة:
- أوبيورا يرى أن عليك ممارسة الجنس أو شيئاً قريباً منه مع الأب أمادي.. لم يسبق أن رأينا عينيه مضيئتين
لم أدر ما إذا كانت جادة في كلامها أو غير جادة، ولم أرد الدخول في مناقشة غريبة كهذه.
- ربما ونحن معاً في الجامعة تنضمين إليّ في إثارة نقاش حول جدوى استمرار عزوبية القساوسة؟.. أو ربما حول السماح للقساوسة بممارسة الزنا مرة كل فترة، أو مرة في الشهر؟
- أماكا.. من فضلك
استدرتُ عائدة إلى الشرفة.
- أتريدين أن يترك عمله كقس؟
بدا صوتها أكثر جدية الآن.
- لن يتركه أبداً
هزت أماكا رأسها وهي تفكر، ثم ابتسمتْ وقالت قبل أن تذهب إلى حجرة المعيشة:
- لن يمكنك الجزم بذلك
كنتُ أكتبُ عنوان الأب أمادي بمفكرتي مرات عديدة وبأنواع مختلفة من الخطوط، واستغرقتني كتابة اسمه وعنوانه المرة بعد المرة في مفكرتي فلم أنتبه لعودته، وعندئذ أمسك بمفكرتي وأغلقها. أردتُ أن أقول له "سأفتقدك". لكن بدلاً من ذلك قلت "سأكتب لك". قال "سأكتب لك أولاً".
لم أدر أن دموعاً تسللتْ على خدي إلى أن بسط يده وجففها وهو يجري راحة يده على وجهي، ثم احتواني بذراعية وعانقني.
***