القاهرة 18 ديسمبر 2014 الساعة 12:41 م
كان الكاتب الفرنسي جول فاليس، دائم الشعور بالمرارة إزاء المجتمع الذي يعيش فيه، وإلى هذا كان لا يتوقف عن إبداء مرارته هذه في نصوصه وكتاباته. غير أن هذا الموقف من المجتمع الذي عاصره، لم يكن موقفاً معمّماً، حتى وإن كان جليّاً. كان موقفه بالأحرى يعبّر عن مشاعر الشعب البسيط الطيب والمهان في الوقت نفسه. كان فاليس يرى، على الأقل، أن صراخه إنما هو صراخ الشعب المقهور، وأن ثورته التي عبر عنها بمواقفه كما بقلمه في مقالاته الصحافية كما في رواياته، ليست ثورة ذاتية يطلقها مثقف ينظر الى الثورات ويغضب إزاء الأحداث من برج عاجي، بل ثورة عامة لا بد لها من أن تنتصر يوماً. ومن هنا حينما اندلعت ثورة الشعب في كومونة باريس، شعر فاليس وكأن حلمه القديم قد تحقق. شعر كما لو أن شعب باريس، وغيرها، يثأر أخيراً من هزيمة الحركات الانتفاضية التي كانت حدثت في عام 1848. أما الكومونة فنعرف أنها اندلعت في عام 1871، وكان لفاليس يومها ثمانية وثلاثون عاماً، هو الذي لن يعيش سوى خمسة عشر عاماً أخرى.
> ولقد كان من الطبيعي يومها ان يقف فاليس الى جانب الكومونة إسوة بالعدد الأكبر من المبدعين والمفكرين الفرنسيين الذين كانوا ينتظرون تلك «الانتفاضة المباركة» منذ تحوّل الثورة الفرنسية الكبرى الى إرهاب وإمبراطورية واحتلالات وحروب مع الأوروبيين الآخرين قبل ذلك بحوالى ثلاثة أرباع القرن. وكان من المنطقي لمساهمات ذلك الكاتب والمناضل الشاب في العمل الثوري ان تكون مما ملكت يداه، أي على شكل أفكار وكتابات. وهكذا نراه يكتب عن الكومونة مقالات عدة ونصوصاً حماسية تشيد بها، هو الذين لم يكتف إبان الأحداث، بأن يكتب، بل انضمّ إلى قيادة التحرّك، حيث انتخب ممثلاً عن الدائرة العشرين في باريس في مجلس الكومونة. وتروي لنا سيرة فاليس ان نشاطه الميداني هذا، قد تضافر وتكامل مع كتابة المقالات التحليلية والتحريضية في صحيفة «صرخة الشعب» وهي واحدة من الصحف الثورية الكثيرة التي ناصرت الكومونة، من دون لف أو دوران... لكننا نعرف أن الكومونة سرعان ما هزمت، فما كان من فاليس الذي اعتبر هزيمتها هزيمة شخصية له، إلا أن هرب لاجئاً إلى لندن حيث أقام هناك قرابة عشر سنوات ولم يعد إلى فرنسا إلا بعد العفو العام الذي صدر عام 1880. وفي لندن لم يستكن فاليس للدعة والسكون بل راح يكتب، هذه المرة، رواية ثلاثية كانت غايته الأساس منها ان تؤرخ لأحداث الكومونة ولبطولات الشعب الفرنسي. ولقد حملت الثلاثية عنوان «جاك فانتراس»، لكن نشر أجزائها الثلاثة لم يكتمل إلا في عام 1886، في معنى أن جزأها الأخير صدر بعد رحيل فاليس.
> صحيح أن هذه الثلاثية كانت عن الكومونة ورجالها، لكنها كانت في الوقت نفسه أوتوبيوغرافية، أي تتضمن جزءاً من سيرة فاليس، قبل الكومونة، وأثناءها. ولئن أتت أجزاء الثلاثية مترابطة الأحداث والشخصيات في ما بينها، فإن من مميزاتها أنها كانت تقرأ أيضاً منفصلة حيث أن كل جزء كانت له خصوصيته وأحداثه.
> يحمل الجزء الأول من «الثلاثية» عنوان «الطفل» وقد أهداها الكاتب إلى كل أولئك الذين «في طفولتهم اضطُهدوا من اساتذتهم، أو ضُربوا على أيدي أهلهم». فيما يحمل الجزء الثاني عنوان «حائز البكالوريا» وأهداه الكاتب إلى أولئك «الذين، إذ تغذوا من اليونانية واللاتينية، ماتوا بعد ذلك، جوعاً»، أما الجزء الثالث، وهو الذي يهمنا هنا فعنوانه «المتمرد»، وهو جزء يمكن أن يُقرأ كعمل مستقل أي رواية ذات سياق يتحول بكل وضوح من الثورة الفردية إلى الثورة الجماعية. والحال ان فاليس إنما أراد من هذا الجزء الثالث والأخير أن يكون «تحية إلى قتلى عام 1871، إلى كل أولئك الذين إذ وقعوا ضحايا الظلم الاجتماعي، حملوا السلاح ضد عالم فاسد التكوين، وشكلوا - تحت راية الكومونة - اتحاد الآلام الكبير».
> إذاً، فإن الجزء الثالث من «ثلاثية» فاليس الأوتوبيوغرافية هذه، هو الذي يطاول أحداث الكومونة، واعتبر دائماً «رواية هذه الكومونة الأساسية». وتروي لنا صفحات هذا العمل البالغة 330 صفحة، عشرة أعوام من حياة بطلها فانتراس، الذي هو الأنا / الآخر لفاليس بالطبع، أي أن الأحداث التي ترويها الرواية تقع بين عام 1862 وعام 1871. وتبدأ مع فانتراس الموظف الصغير الآتي من الريف، والساعي في الوقت نفسه الى الحصول على فرصة الكتابة في الصحف، وفي أعمق أعماقه غضب هائل ضد المجتمع. يبدو لنا فانتراس في البداية ثائراً فرديّاً، لكنه ثائر أساساً، لذلك يقف فوراً ضد نظام نابليون الثالث. وهذا ما يتيح للكاتب أن يرسم لنا، خلال النصف الأول من روايته صوراً قلمية «مختصرة ولكن دقيقة»، وفق النقاد، لعدد من الشخصيات السياسية التي كانت مثار إعجابه في ذلك الحين مثل بلانكي وميشليه ولوفرانسيه. لاحقاً حينما تندلع الحرب في عام 1870، يشعر الصحافي المتمرد بالاشمئزاز إزاء «هوجة» الشوفينية المعادية للبروسيين (الألمان) التي تجتاح فرنسا وهو يقول عن هذه الهوجة: «إنها أكبر خيبة أمل أصابتني في حياتي كلها». ولاحقاً حينما تندلع الكومونة في 18 آذار (مارس) 1871، يرى فانتراس أن هذه اللحظة هي اللحظة التي يتحقق فيها الحلم الثوري الإنساني والأممي الذي طالما ساوره خلال حياته كلها. فيقول: «إنها، إذاً، اللحظة المأمولة التي كنت انتظرها منذ أولى ضروب القسوة الأبوية التي عانيت منها صغيراً. أي منذ أولى صفعة تلقيتها. منذ أول يوم أمضيته من دون خبز، منذ أول ليلة نمتها خارج أي دار: إذاً ها هو ثأري من الكلية، من البؤس، ومن أحداث ديسمبر (كانون الأول) - يعني الأحداث التي اندلعت ضد نابليون الثالث وأخفقت». ولكن فانتراس، الإنساني بطبعه، والذي لم يكن يريد لثورته الأثيرة أن تتلطخ بالدماء، يضيف هنا: «أنا لم أكن أريد أبداً أن تتلطخ بالدماء أيادينا، منذ فجر انتصارنا»، ولكن ما العمل والثورة، كل ثورة لا يمكنها أن تخلو من سفك الدماء؟
> إذاً ها هو فانتراس - فاليس يعيش خيبة جديدة في حياته، هو الذي كان يسعى طوال هذه الحياة الى تحقيق عالم نظيف لا دماء فيه ولا ظلم. هنا يصل الكاتب إلى ذروة تناقضاته، فهو، إذ يعبّر عن توقه إلى ذلك العالم الجميل الذي لا تبارح صورته المثالية خياله، يعبّر في الوقت نفسه عن وقوفه إلى جانب الشعب. فهو، بعد كل شيء يشعر بكراهية كبيرة إزاء مجتمع لا يرحم الفقراء على الأطلاق، «مجتمع لا يرحم أياً من الذين يرغبون في ألا يخضعوا لعبودية المجتمع لهم».
> إزاء تناقضاته هذه، لا يعود أمام الكاتب (وبطله) إلا أن ينظر إلى كل ما يحدث بكثير من الرعب. مستخدماً للتعبير عن ذلك لغة قاسية وفجّة، لكنها في الوقت نفسه لا تخلو من شاعريّة عميقة ومن تطلع نحو الأحاسيس الداخلية والوجدان. وخصوصاً حينما يتحدّث فاليس عن البسطاء، إذ هنا سرعان ما تتخذ لغته طابعاً بسيطاً جزلاً، و»يحسّ المرء من خلال عباراته تعاطفاً حاراً مع كل الضحايا»، وفق قول النقاد. ولاحقاً حينما تهزم الكومونة، يقرّر الكاتب أن أحداً لن يهزمه وأن أحداً لن ينال منه... ومن هنا تمتد ثورته وتتجذر ولكن هذه المرة، في روايته، لا في شوارع باريس التي صبغت بالدماء.
> عاش جول فاليس بين عامَي 1832 و1885، وهو، منذ طفولته في بيت كان الأب فيه مدرساً ذا نزعة اشتراكية، والأم فلاحة متمردة، حمل أفكاره التحررية، ومنذ شبابه الباكر عمل في الصحافة، في الريف أولاً ثم في باريس بعد ذلك، وكتب المقالات التحريضية منذ عام 1848. وظل مواصلاً تلك الكتابة ما جعله يسجن مرات عدة خلال السنوات التالية. أما حينما هزمت الكومونة، فإنه، رفض أن يسجن من جديد واختار المنفى، حيث سمحت له بعض سنوات الهدوء بإنجاز «ثلاثيته» الأساسية تلك.