القاهرة 16 ديسمبر 2014 الساعة 02:11 م
بعد أحد السعف
(1)
عمَّ الاضطراب كل شيء بعد أحد السعف. أمطار غاضبة صاحبت رياح عاصفة اقتلعت جذور شجيرات النباتات في الفناء الأمامي للمنزل، واستقرت زهورها البيضاء والبنفسجية وجذورها الممتزجة بطين التربة على العشب. وأحدث الطبق المتصل بالقمر الصناعي المثبت بأعلى الكاراج ضجة عالية عند اقتلاعه وسقوطه في الطريق المؤدي إلى البوابة الخارجية. وباب خزانة ملابسي فقد اتزانه وسقط. وسيسي كسرتْ طاقم السفرة الصيني الذي تعتز به ماما كثيراً.
عندما طلبت ماما من سيسي أن تنظف حجرة المعيشة للتأكد من عدم وجود قطع متكسرة من بقايا تماثيل راقصات الباليه المكسورة قد تتسبب في أذى لأحد، لم يأت حديث ماما لسيسي بصوت هامس كالمعتاد. ولم تقم ماما كذلك بإخفاء إدخالها طعام جاجا إلى حجرته ملفوفاً في ملابس غسيل، لكن بدلاً من ذلك، وضعتْ طعامه في أطباق على طاولة خشبية.
سأل بابا عن جاجا للمرة الأولى في اليوم التالي لأحد السعف. لم يستطع بابا فتح بابا حجرته لأن جاجا كان قد أسند طاولة مذاكرته خلف الباب بدلاً من إغلاقه بالمفتاح. قال بابا وهو يدفع الباب:
-جاجا.. جاجا.. هيا لتتناول عشاءك معنا.. أتسمعني؟
لم يخرج جاجا من حجرته، ولم يقل بابا شيئاً طوال العشاء. لم يكمل طعامه وشرب ماءً كثيراً، وقال لماما أن تطلب من "تلك الفتاة" أن تحضر المزيد من زجاجات الماء. بدا وجهه منتفخاً وقد تزايد الطفح الجلدي.
قبل أن ننهي عشاءنا، جاءت يواندا كوكر وابنتها الصغيرة. وأنا أصافحها محيية دققتُ النظر في وجهها وجسدها باحثة عما اختلف في حياتها الآن بعد موت إد كوكر، لكنها بدت لي غير مختلفة، ما عدا ملابسها: دثار أسود، بلوزة سوداء، ووشاح أسود يغطي كل شعرها ومعظم جبينها. جلستْ على الأريكة. قالت يواندا وعيناها تنظران إلى ابنتها:
- لقد تكلمتْ أخيراً، يا سيدي
- حمداً للرب
قالها بصوت عال جداً حتى أنني قفزت من مقعدي قليلاً. وقالت ماما:
- شكراً للرب
وقفتْ يواندا وجثتْ أمام بابا.
- شكراً لك يا سيدي.. شكراً لك على كل شيء.. لولا ذهابنا إلى المستشفى بالخارج لما شفيت ابنتي
- انهضي يواندا.. الفضل كله للرب وحده
***
في ذلك المساء، وبينما بابا في حجرة مكتبه يصلي، ذهبتُ إلى باب حجرة جاجا، دفعته وسمعتُ صوت احتكاك طاولة مذاكرته بالأرضية قبل أن يفتح. أخبرته عن زيارة يواندا فأومأ برأسه، وقال إن ماما أخبرته أن ابنة إد كوكر فقدتْ النطق منذ موت والدها، وقام بابا بتوفير المال الذي أتاح لها العرض على أفضل أطباء ومعالجين نفسيين في نيجيريا وفي الخارج. قلت:
- لم أعلم أنها عجزتْ عن الكلام منذ مصرع والدها.. لقد مرت أربعة أشهر الآن.. شكراً للرب
نظر جاجا في صمت لفترة. تعبير وجهه ذكرني بالنظرات القديمة التي اعتادتْ أماكا أن توجهها لي والتي جعلتني أشعر بالأسف لأشياء لم أكن متأكدة منها. قال جاجا:
- ســوف لن تشـــفى أبداً.. ربمــا اســتعادتْ النطــق الآن.. لكنـها لن تشفى أبداً
عند مغادرتي حجرة جاجا، دفعتُ طاولة مذاكرته قليلاً، وتساءلتُ لماذا لم يستطع بابا فتح باب جاجا عندما حاول ذلك من قبل مع أن طاولة المذاكرة لم تكن ثقيلة.
***
كلما فكرتُ فيما سيحدث عندما لا يذهب جاجا لتناول القربان مرة ثانية يتملكني الفزع. كنتُ أعلم أنه لن يذهبْ. رأيتُ ذلك في فترات صمته الطويلة وفي شفتيه المزمومتين وفي عينيه المثبتتين لوقت طويل على نقاط غير مرئية.
في يوم الجمعة الكبيرة، تحدثتْ العمة افيوما إلينا هاتفياً لأننا لم نذهب لأداء صلوات الصباح كما خطط بابا من قبل. أثناء الإفطار ظلتْ يدا بابا ترتعشان إلى درجة أنه سكب بعضاً من كوب الشاي الذي يمسك به. راقبتُ قطرات الشاي وهي تزحفُ على الطاولة الزجاجية. قال إنه يحتاج إلى قسط من الراحة قبل أن نذهب في المساء إلى الاحتفال بآلام المسيح بين ليلة العشاء الأخير وموته، ذلك الاحتفال الذي يؤمه عادة الأب بينيديكت قبل تقبيل الصليب.
كنا قد ذهبنا وحدنا إلى الاحتفال المسائي في الجمعة الكبيرة العام الماضي لأن بابا كان منشغلاً بشيء ما في صحيفة ذي استاندرد. سرنا جاجا وأنا إلى الصليب الخشبي أولاً، ثم قبَّلتهُ أنا وشعرتُ ببرودة في شفتي وبرجفة غمرت جسدي كله. عند جلوسنا بكيتُ بكاءً صامتاً بدموع تجري بغزارة على وجنتي. كثير من الناس حولي شاركوني البكاء. كان بابا دائماً يبدي سروره بدموعي. لازلت أذكر بوضوح كيف انحنى مرة وربَّتَ بلطف على وجنتي. وبالرغم من عدم تأكدي وقتها من سبب بكائي إلا أنني شعرتُ بالزهو لما فعله بابا.
كنتُ أفكر في ذلك قبل أن تتصل العمة افيوما هاتفياً. دق جرس الهاتف كثيراً. كان بابا نائماً، فاعتقدتُ أن ماما سترفع سماعة الهاتف وتجيب، لكنها لم تجب، لذلك ذهبتُ إلى حجرة المكتب وأمسكت بالسماعة. كان صوت العمة افيوما خافتاً جداً على غير المعتاد.
- أخطروني بإنهاء خدمتي
وبدون أن تنتظر حتى أجيبها، قالت:
- كيف حالك؟.. بسبب ما أسموه بالنشاط غير القانوني.. أمامي شهر واحد وتنقطع صلتي بالجامعة. لقد تقدمتُ للسفارة الأمريكية بطلب تأشيرة زيارة.. أبلغتُ الأب أمادي.. سيغادر لعمل تبشيري في ألمانيا نهاية الشهر
لطمتان في وقت واحد. أصابتني حالة من الذهول. سألتْ العمة افيوما عن جاجا. وأنا أتعثر في سيري، ذهبتُ إلى حجرته. قال بعد أن أنهي حديثه مع العمة افيوما:
- سنذهب إلى نسوكا اليوم.. سنقضي عيد الفصح في نسوكا
لم أسأله ماذا يعني أو كيف سيقنع بابا لكي يسمح لنا بالذهاب. راقبته يقرع باب حجرة بابا ويدخل:
- سنذهب إلى نسوكا.. كامبيلي وأنا
سمعته. لم أسمع ما قاله بابا، ثم سمعتُ جاجا يقول:
- سنذهب إلى نسوكا اليوم وليس غداً.. إذا لم يوصلنا كيفن فسنذهب حتى لو اضطررنا إلى السير على الأقدام
وقفتُ ساكنة أمام الدرج. يداي ترتعشان بشدة. ذهبتُ إلى حجرتي وجلستُ بجوار النافذة أنظر إلى شجرة الكاجو بالخارج. جاء جاجا إلى حجرتي ليبلغني بموافقة بابا، وبأن كيفن سيوصلنا إلى هناك. كان يمسك بحقيبة رتبها على عجل دون أن يغلقها. وقف يراقبني وأنا أضع بعض أغراضي في حقيبة. سألتُ:
- بابا لايزال في سريره؟
لم يجب واستدار ليهبط الدرج. طرقتُ باب حجرة بابا وفتحته. كان جالساً على السرير ومنامته الحريرية غير مهندمة، وماما تصب له ماءً في كأس. قلت:
- وداعاً، بابا
نهض ليعانقني، ثم قال وهو يقبلني في جبيني:
- نراكما سريعاً
عانقتُ ماما قبل أن أغادر الحجرة. سرتُ ببطء حتى هبطتُ الدرج. كان جاجا في انتظاري عند أسفل الدرج. مدَّ ذراعه وتناول حقيبتي. كان كيفن واقفاً بجانب السيارة عند خروجنا.
- من سيأخذ والدك إلى الكنيسة؟.. والدك ليس في صحة جيدة تسمح له بقيادة السيارة
سأل وهو ينظر إلينا في ريبة. ظل جاجا صامتاً لفترة طويلة حتى أدركتُ أنه لن يجيب. قلت:
- بابا قال أن تأخذنا إلى نسوكا
هز كتفيه استهجاناً وتمتم قبل إدارة محرك السيارة.
- ألا يمكنكما الذهاب غداً؟
ظل كيفن صامتاً طوال الطريق. رأيتُ عينيه من وقت لآخر في المرآة الخلفية تنظران في حدة نحونا، وفي أكثر الأحيان إلى جاجا.