القاهرة 15 ديسمبر 2014 الساعة 02:11 م
شرعتْ العمة افيوما في تنظيف غرفة التجميد بالثلاجة، التي بدأت تصدر رائحة غير طيبة، بسبب الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي. أزالت المياة الراكدة التي تسربتْ إلى الأرضية، ثم أخرجتْ أكياس اللحم ووضعتها في قدر. تحولتْ قطع لحم البقر الصغيرة إلى لون بني مرقش، وقطع الدجاجة التي ذبحها جاجا إلى لون أصفر داكن. قلت:
- لحم كثير مهدر
ضحكت العمة افيوما
- مهدر؟.. سأغلي جيداً اللحم مع التوابل
- ماما.. إنها تتحدث كابنة للرجل الكبير
قالت أماكا التي شعرتُ بالامتنان لها لأنها لم تسخر مني، وبدلاً من ذلك أطلقتْ ذات ضحكة والدتها. كنا جالسين فوق حصير بأرضية الشرفة وتحت شمس الصباح المعتدلة بعد المطر، نستبعد حصوات صغيرة من الأرز نضعها فوق الحصير. بعد الانتهاء من تنقية الأرز في الآنية المسطحة المطلية بالمينا، تقوم أماكا بتقسيمه إلى أكوام صغيرة تنفخ في كل كومة لإبعاد القش.
- هذا الأرز الرخيص يسبب مشكلة عند طهيه، فهو يتعجن مهما كان الماء المضاف إليه قليلاً
تمتمتْ أماكا بعد مغادرة العمة افيوما. ابتسمتُ. شعرتُ بدفء صحبتها وأنا جالسة بجانبها أستمع إلى أشرطة كاسيت فيلا وأونيكا من مسجلها الصغير الذي زودته بحجري بطارية جافة. لم يسبق أن شعرتُ بمثل هذا الصمت المريح الذي نتقاسمه أثناء قيامنا بتنقية الأرز بعناية. حتى الهواء بدا ساكناً وزاد من نشاطه قليلاً بعد سقوط المطر وبعد انقشاع السحب من السماء رويداً رويداً.
صوت محرك سيارة تتجه نحو شقتنا عكَّر صفونا. كنتُ أعلمُ أن الأب أمادي يمارس عمله المكتبي بالكنيسة هذا الصباح، ومع ذلك تمنيتُ أن يكون هو القادم. تخيلته مبتسماً يتجه إلى الشرفة ممسكاً بإحدى يديه رداء الكاهن حتى يمكنه قفز الدرجات القليلة. استدارت أماكا لتنظر.
- العمة بياتريس!
بسرعة التفتُّ إليها. كانت تترجل من تاكسي أصفر متهالك. ماذا تفعل هنا؟.. ماذا حدث؟. لماذا ترتدي خفها المطاطي طوال الطريق من انوجو؟. خطتْ ببطء ممسكة بأطراف دثارها الذي بدا فضفاضاً ويكاد ينزل عن خصرها في أية لحظة، وبلوزتها غير مكوية.
- ماما!.. حدث شيء؟
عانقتها بسرعة حتى يمكنني التراجع خطوة لأنظر إليها. يدها باردة. عانقتها أماكا وحملتْ حقيبتها عنها.
- العمة بياتريس
جاءت العمة افيوما من الشرفة مسرعة وهي تجفف يديها في مقدمة بلوزتها. عانقتْ ماما ثم قادتها إلى حجرة المعيشة وهي تمسك بها وكأنها تعاونها على الحركة.
- أين جاجا؟
قالت العمة افيوما:
- اجلسي.. أماكا.. خذي نقوداً من حافظتي واذهبي لتشتري زجاجة مياه غازية لعمتك
- لا تقلقي.. سأشرب ماءً
- الماء ليس بارداً بسبب انقطاع التيار الكهربائي
- لا يهم.. سأشربه
جلستْ ماما بحرص على حافة كرسي من الخيزران وغشاوة في نظرات عينيها. أكاد أجزم أنها لم تتمكن من رؤية الصورة ذات الإطار المكسور وزهرات الزنبق التي تزين الزهرية.
- أشعر بصداع شديد في رأسي
ضغطتْ بظهر يدها على جبينها مثل شخص يتحقق من درجة حرارة جسمه المريض بالحمى.
- خرجتُ من المستشفى اليوم، ونصحني الطبيب بالراحة. لكنني أخذتُ نقوداً من ايوجين وطلبتُ من كيفن أن يوصلني إلى موقف السيارات. وهناك استأجرتُ تاكسياً وأتيتُ إلى هنا
- كنت في المستشفى؟.. ماذا حدث؟
بسرعة سألتْ العمة افيوما. تطلعتْ ماما في أحد جوانب الحجرة وحملقتْ في ساعة الحائط المكسور أحد عقربيها، ثم نظرت إليّ.
- تلك الطاولة الخشبية التي نضع عليها الكتاب المقدس.. لقد كسرها على بطني
كانت تتحدث وكأنها تقصد بكلامها شخصاً آخر، وكأن الطاولة ليست مصنوعة من نوع قوي من الخشب.
- نزفتُ دماءً كثيرة على الأرض قبل أن يأخذني إلى سان أجنيز
هزت ماما رأسها ببطء. خيط دموع رفيع زحف على خديها بالرغم من محاولتها عدم السماح لها بالخروج من عينيها. همست الع
مة افيوما:
- لإنقاذه؟
- كان عمره ستة أسابيع
اتسعتْ عينا العمة افيوما.
- ايوجين لم يعلم.. لم أخبره
جلست ماما على الأرض ومدت ساقيها أمامها، وجلستُ إلى جانبها وتلامس كتفانا وتشابكت أيدينا. أجهشتْ بالبكاء بينما العمة افيوما تطهي اللحم الذي تلفتْ أنسجته على نار هادئة بعد إضافة التوابل الحريفة إليه. انخرطتْ في بكاء متصل حتى راحت في نوم عميق ورأسها يستند إلى المقعد. قام جاجا ببسط جسدها على حشية بأرضية حجرة المعيشة.
في ذلك المساء، وبينما نحن نجلس حول مصباح الكيروسين بالشرفة، دق جرس الهاتف وكان المتحدث بابا. تحدثتْ إليه العمة افيوما وجاءت تخبر ماما:
- أنهيتُ المكالمة.. أخبرته أنني لن أدعكِ تأتين إلى الهاتف
نهضتْ ماما من مقعدها.
- لماذا؟.. لماذا؟
- اجلسي الآن!
ردتْ العمة افيوما بحدة، لكن ماما لم تجلس. لحظات ودق جرس الهاتف وكان المتحدث بابا. سارعتْ ماما بالرد وبعد مرور ربع ساعة تقريباً عادت ماما وهي تحدق في نقطة في الفراغ أعلى من مستوى عيوننا، وقالت:
- سنغادر غداً، الأطفال وأنا
- تغادرون إلى أين؟
- انوجو.. سنعود إلى منزلنا
- هل جننتِ؟.. لن تذهبي إلى أي مكان
- ايوجين سيأتي بنفسه ليأخذنا
- استمعي إليّ
خفَّضتْ العمة افيوما من صوتها. أدركتْ أن الصوت الحازم لن يفيد في الابتسامة الثابتة على وجه ماما. كانت الغشاوة لاتزال في عيني ماما. بدتْ وكأنها امرأة مختلفة عن التي جاءت في ذلك الصباح. بدتْ وقد استحوذتْ عليها قوة غير معلومة.
- على الأقل امكثي بضعة أيام.. لا تعودي بهذه السرعة
هزتْ ماما رأسها. كان وجهها خالياً من التعبير ما عدا شفتاها المزمومتان.
- ايوجين ليس في حالة طيبة.. يعاني من الحمى والصداع النصفي.. يحمل على كاهله ما لا يطيقه أحد.. أتعرفين تأثير مصرع إد عليه؟
- ما الذي تقولينه؟
بنفاد صبر، ضربتْ العمة افيوما بعنف حشرة طارت بالقرب من أذنيها.
- أفيديورا عندما كان حياً، مرت بنا أوقات لم تصرف فيها الجامعة الرواتب لعدة أشهر، ولم نكن أفيديورا وأنا نملك شيئاً.. ومع ذلك لم يرفع يده عليّ أبداً
- أتعلمين أن ايوجين يدفع المصروفات الدراسية لأكثر من مائة شخص؟.. أتعلمين أن الكثيرين من الناس يعيشون على ما يقدمه شقيقك لهم؟
- هذا ليس موضوعنا وأنت تعرفين هذا
- أين أذهب إذا أنا غادرتُ منزل ايوجين؟.. أخبريني.. أين أذهب؟
لم تنتظر إجابة العمة افيوما.
- أتعلمين كم من الأمهات دفعن بناتهن في طريقه؟.. أتعلمين كم منهن طلبوا منه أن يدخل ببناتهن بغير أن يطلبن حتى مهر العروس؟
انفجرت العمة افيوما في الصياح.
- وبعد؟.. أسألكِ.. وبعد؟
ألقتْ ماما بجسدها على الأرضية، وقام أوبيورا ببسط حصير لكنها استلقت على الجزء الأسمنتي المكشوف من الأرضية.
- عدتِ ثانية إلى حديث الجامعة، افيوما
قالت ماما بصوت خفيض، ثم نظرتْ بعيداً راغبة في انتهاء الحديث بينهما. لم يسبق أن شاهدتُ ماما على هذا الشكل.. لم يسبق أن شاهدتُ تلك النظرة في عينيها.. لم يسبق أن سمعتها تقول الكثير في وقت قصير كهذا. بعد وقت طويل من ذهابها والعمة افيوما إلى الفراش، جلستُ في الشرفة مع أماكا وأوبيورا الذي علمني جميع ألعاب الورق.
- الورقة الأخيرة
باعتداد بالنفس، قالت أماكا، ثم وضعت الورقة على الطاولة أمامها.
- أتمنى أن تأخذ العمة بياتريس قسطاً مريحاً من النوم
التقط أوبيورا الورقة.
- ستكون بخير
نظرتْ أماكا نحوي وكررتْ.
- ستكون بخير
بسط أوبيورا ذراعه وربَّتْ على كتفي. لم أدر ماذا أفعل، لذلك سألتُ رغم معرفتي الإجابة:
- هذا دوري
قالت أماكا:
- العم ايوجين ليس رجلاً سيئاً في الحقيقة.. الناس جميعاً يرتكبون أخطاءً.. أعني أن بعض الناس لا يمكنهم التعامل تحت الضغوط
نظرتْ أماكا إلى أوبيورا متوقعة منه أن يقول شيئاً، لكنه ظل صامتاً يدقق في ورق اللعب بيده. التقطتْ أماكا ورقة لعب إضافية.
- لقد تحمل تكلفة جنازة الأب نوكوو
كانت لاتزال تنظر إلى أوبيورا، لكنه لم يستجب لها، وبدلاً من ذلك وضع ورقة اللعب على الطاولة قائلاً: "هكذا اللعب". فاز أوبيورا ثانية.
وأنا مستلقية على السرير لم أفكر في العودة إلى انوجو.. فكرتُ في ألعاب الورق التي خسرتها.
على أثر وصول بابا بسيارته المرسيدس، بدأتْ ماما في ترتيب حقائبنا ثم وضعتها في السيارة. عانق بابا ماما واستبقاها بجانبه، فأسندتْ رأسها على صدره. لاحظتُ فقدان بابا كيلوجرامات من وزنه، لكنني لم ألحظ الطفح الجلدي على وجهه إلا عند اقترابي منه لأعانقه. بدا وجهه منتفخاً وقد تغير لونه. كنت أنوي عناقه وأدعه يقبل جبهتي، لكنني بدلاً من ذلك وقفتُ وحدقتُ في وجهه، قال:
- أشكو من بعض الحساسية.. شيء لا يدعو إلى القلق.
عندما ضمني بذراعيه، أغلقتُ عيني وهو يقبل جبهتي.
همستْ أماكا قبل أن نتبادل عناق الوداع:
- نراكِ سريعاً
وقفتْ خارج الشقة ملوحة حتى لم يعد في إمكاني رؤيتها من الزجاج الخلفي للسيارة.
فور مغادرتنا، بدأ بابا في تلاوة الصلاة. كان صوته مختلفاً ومرهقاً. حدقتُ في ظهر عنقه الذي بدا مختلفاً أيضاً.. بدا أكثر نحافة. التفتُّ إلى
جاجا. أردتُ أن تلتقي عينانا لأخبره كم رغبتُ كثيراً في أن أقضي عيد الفصح في نسوكا، وكم أردتُ أن أحضر تعميد أماكا، والقداس الذي يقيمه الأب أمادي، وكم خططتُ لكي أغني بصوت عال. لكن جاجا ثبَّتَ عينيه في النافذة. وفيما عدا تمتماته بتلاوة الصلاة، ظل صامتاً حتى وصولنا إلى انوجو.
رائحة ثمار الفاكهة ملأت خياشيمي عندما فتح أدامو بوابات منزلنا الكبير، وكأن الأسوار العالية قد احتضنت داخلها رائحة الكاجو والمانجو والافوجادو.
- انظرى، شجيرات الكركديه الأرجوانية على وشك أن تزهر.
قال جاجا لحظة ترجلنا من السيارة. كان يشير بأصبعه بالرغم من أنني لم أكن في حاجة إلى إشارته. شاهدتُ البراعم البيضاوية الشكل النائمة وهي تتراقص بفعل نسيم المساء.
في اليوم التالي، كان أحد السعف.. اليوم الذي لم يذهب فيه جاجا لتناول القربان.. اليوم الذي ألقى فيه بابا الكتاب المقدس في فضاء الحجرة وكسر التماثيل.