القاهرة 15 ديسمبر 2014 الساعة 02:01 م
كتب : حسام إبراهيم
فيما تحتفل مصر وجماعتها الثقافية اليوم "الاثنين" بـ "يوم المترجم" تتوالى أسئلة
الترجمة على مستويات مصرية وعربية وعالمية كما يحق التساؤل حول الأجيال الجديدة للمترجمين
والكوادر الأكاديمية الشابة في حقول اللغويات والألسن .
وغني عن البيان أن هناك علاقة وثيقة بل و"عروة وثقى" بين الثقافة واللغة بحيث تعد
كل منهما حاضنة للأخرى وأن اللغة كما يقول الدكتور سعيد إسماعيل علي هي وسيلة الثقافة
إنتاجا واستهلاكا كما أن الثقافة تمد اللغة بما يستجد من قيم ومعارف ومهارات
جديدة أو متطورة تفرض تسمية بعينها ومن هنا فإن أي وهن ثقافي يفضي لوهن اللغة.
ويأتي الاحتفال بيوم المترجم قبل ثلاثة أيام من الاحتفال "باليوم العالمي للغة العربية"
بناء على قرار كان المجلس التنفيذي لليونيسكو قد أصدره عام 2010 فيما قررت
الأمم المتحدة منذ عام 1973 اعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية المقررة في
لجانها المختلفة.
وفي سياق الاحتفال "بيوم المترجم" تنظم الهيئة المصرية العامة للكتاب ثلاث ندوات تتصل
بقضايا الترجمة فضلا عن معرض لإصدارات سلسلة الجوائز التي تصدرها الهيئة كما
ينظم المركز القومي للترجمة احتفالا كبيرا يتضمن توزيع جوائز "رفاعة الطهطاوي" و"الشباب"
التي يمنحها هذا المركز سنويا.
وإذ تتضمن احتفالية هيئة الكتاب ندوة بعنوان "المترجم مبدع العمل الثاني" فضلا عن
ندوة حول قضايا الترجمة الأدبية فمن الطريف والدال أن يذهب الشاعر والكاتب والمترجم
الفرنسي جاك انسيه لحد القول بأن "على المترجم أن يكون أذكى بمعنى ما من الكاتب"
وفى المقابل يؤكد المفكر والمنظر الألماني والتر بنيامين على أن "المترجم يبقى
مدينا للأصل".
وإذ تتردد في هذا السياق مصطلحات وتعبيرات قد يراها البعض مفعمة بالحماس الزائد عن
الحد من قبيل :" الترجمة مفجر الثورة اللغوية" فإن ثمة اتفاقا واسعا على أن "الترجمة
بمثابة إعلان صريح من حضارة ما عن انفتاحها على الآخر" بقدر ما تشكل بديمومة
فعل التطوير والتلقيح والإثراء "عرسا للغة".
وقال الدكتور أنور مغيث مدير المركز القومي للترجمة إن احتفال المركز بيوم المترجم
يستهدف أيضا إحياء مشروع "رابطة المترجمين" التي اعلن عنها منذ نوفمبر 2012 فيما
تعد كلية الألسن "لاعبا رئيسا في أي مشروع ثقافي وطني للترجمة بمصر".
وعشية الاحتفال بيوم المترجم حق لهذه الكلية أن تفخر بإنجازاتها الثقافية - المعرفية
في دراسات الترجمة واللغويات والأدب فيما تتوالى إنجازات كوادرها الأكاديمية أو
" أبناء رفاعة الطهطاوي" في سياق حميد من تواصل الأجيال لتضيف لبنات جديدة في صرح
المنجز الثقافي المصري.
وأحدث هذه الإنجازات الثقافية اللافتة لكلية الألسن حققته الباحثة المصرية الشابة
الدكتورة هند حامد عز الدين في أطروحة للدكتوراه حول "الواقعية الروحية" عبر دراسة
مقارنة في الشعر جاءت قبل ساعات معدودة من الاحتفال بيوم المترجم.
فقد حصلت هند حامد عز الدين على دكتوراه الألسن في اللغة الانجليزية بدرجة الامتياز
مع مرتبة الشرف الأولى عن أطروحة بعنوان "الذات والآخر : الواقعية الروحية في شعر
والاس ستيفنز ولي يونج لي" فيما كانت الرسالة بإشراف الأستاذ الدكتور محمد شبل
الكومي وهو أستاذ اللغة الانجليزية ورئيس جامعة مصر الدولية.
وضمت لجنة المناقشة الأستاذ الدكتور مصطفى رياض أستاذ ورئيس قسم اللغة الانجليزية
بآداب عين شمس , والأستاذ الدكتور أسامة عبد الفتاح أستاذ ورئيس قسم اللغة الانجليزية
بآداب جامعة المنوفية , فيما حضر المناقشة العديد من المثقفين والمترجمين الذين
اتفقوا على أن هذه الباحثة الشابة تثري الثقافة المصرية بإنجازاتها الثقافية
والأكاديمية.
وقبيل حصولها على درجة الدكتوراه أمس الأول "السبت"كانت هند حامد عز الدين مدرسا مساعدا
بقسم اللغة الانجليزية بكلية الألسن في جامعة عين شمس حيث تولت تدريس الشعر
الانجليزي في عصوره المختلفة بعد حصولها على الماجستير بامتياز مع مرتبة الشرف عن
أطروحة بعنوان :"شعرية التاريخ في ديوان عبور الخط " للشاعر الإيرلندي توم بولين.
وكان من الدال أن تتناول هذه الباحثة الشابة وجهة نظر هذا الشاعر الإيرلندي الكبير
الذي عقد نوعا من المقارنة بين الصراع الانجليزي-الإيرلندي والصراع الإسرائيلي -
الفلسطيني في إطار مناقشة لفكرة "تكرار الأحداث التاريخية".
وإذا كانت الدكتورة هند حامد عز الدين معنية أيضا عبر دراساتها وأطروحاتها في عالم
اللغة والألسن بقضايا وجودية مثل جوانية الإنسان وحرية النفس في مواجهة قيود العالم
الخارجي وإحباطاته فان الأكاديمي البارز الدكتور محمد عناني واحد المع المترجمين
المصريين نوه بالجهد الثقافي الابداعي لهذه الباحثة المصرية الشابة التي تنهض
بدور لافت في الحوار بين الحضارات وعمليات التفاعل الثقافي بين العرب والغرب.
وهاهو الدكتور سعيد إسماعيل علي أحد كبار المثقفين المصريين من المتخصصين في الدراسات
التربوية يتحدث عن "الحال الثقافي والوضع اللغوي" فيما يتصل بقضايا التعليم معيدا
للأذهان حرص محمد علي عندما تولى حكم مصر على تعريب ابرز إنجازات الغرب الحضارية
وتتويج هذا الجهد بإنشاء رفاعة الطهطاوي "مدرسة الألسن".
ولئن أشار الدكتور سعيد إسماعيل علي إلى أن " تزايد انجراف الدولة العثمانية نحو سياسة
تمييزية ضد العرب وخاصة في بلاد الشام دفع عددا غير قليل من المفكرين والأدباء
والعلماء والفنانين والصحفيين إلى الهجرة لمصر حيث لعبوا دورا متميزا في الساحة
الثقافية تعميقا للاتجاه العروبي" فهل يحق القول اليوم أن "مخطط العثمانية الجديدة"
الذي يتبناه نظام رجب طيب أردوغان يمكن أن يفضي لإحياء جديد للاتجاه العروبي
ونهضة ثقافية عربية تلعب فيها الترجمة دورا طليعيا كما حدث في الماضي?!.
ويعيد هذا المثقف المصري الكبير للأذهان أن "من يقرأ للأساتذة الأوائل في مصر أمثال
:طه حسين وهيكل والمازني ومشرفة واحمد زكي ومحمد كامل حسين وزكي نجيب محمود وعبد
الحليم منتصر وسليمان حزين ومن سار على دربهم لا يخطيء حرص هذا الجيل على المتابعة
المستمرة للثقافة الغربية الحديثة بلغاتها وفي الوقت نفسه أتقان استخدام مفاتيح
اللغة العربية".
غير أن المشهد الثقافي الراهن حافل بتحديات جراء تراكمات سلبية وانعكاسات مؤسفة على
اللغة حدت بالدكتور سعيد إسماعيل علي للقول في جريدة الأهرام :" إذا كان الفزع
من ضعف الباحثين في اللغات الأجنبية مبررا ويمكن فهمه وتقديره إلا أن مالا يمكن فهمه
وتقديره التراجع المخيف والمحزن لقدرات الباحثين في معرفة أبسط أصول لغة قومهم
ووطنهم ".
ومن المعروف أن من قواعد الترجمة الأساسية أتقان اللغة المنقول منها وكذلك اللغة
المنقول إليها كما انه من المعروف أن لكل لغة "منطقا ونهج تفكير" , غير انه نظرا
لما أشار إليه الدكتور سعيد إسماعيل علي :" من تراجع مخيف لتعليم اللغة العربية برزت
نوعية مؤسفة من المترجمين ممن يتقنون اللغة الأجنبية لكنهم لا يتقنون اللغة العربية
فاذا بما يترجمون :غامض غير مفهوم يفشل في تأدية وظيفة الترجمة حيث يلجأ المترجم
ضعيف اللغة العربية إلى الترجمة القاموسية وحدها فيخطيء ويغمض ".
فاللغة ليست مجرد وعاء للفكر بل هي الفكر نفسه , ومن ثم فمن اعوجت لغته اعوج فكره
فيما يتفق مثقف مصري كبير آخر هو الدكتور محمد عبد المطلب أستاذ النقد الأدبي في
جامعة عين شمس مع رؤية الدكتور سعيد إسماعيل علي معتبرا "إننا اليوم نواجه نكسة لغوية
بعد أن فشت العجمة وشاع اللحن واصبح الجهل بالعربية مجالا للفخر ".
وشدد عبد المطلب على انه يتوجب علينا مع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية أن
نستعيد لهذه اللغة مكانتها في سلم القيم " فلا حضارة بلا لغة ولا نهضة بلا لغة ولا
هوية بلا لغة" معتبرا أن البداية تكون من "التعليم في كل مراحله وكل مستوياته ثم
وسائل الإعلام المختلفة".
وليست الترجمة بعيدة عما تقوله الأكاديمية الفلسطينية والباحثة في الأدب العربي الحديث
بباريس الدكتورة رابعة حمو-من أن اللغة وظيفة عضوية وظاهرة اجتماعية وملكة إنسانية
وهى الوعاء الذي ينتج الفكر والعلم والمعرفة ولذلك فهي محرك نشاط الأفراد
والجماعات ومن هنا فهي الحامل الأبرز لكل خطة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية .
والحقيقة أن قضايا الترجمة تشكل هما عالميا ليس وليد اليوم و الا ما تحدث عنها إعلام
في الفكر الغربي مثل الألماني جوته وشليجل وهولدرين باعتبارها عملية مطورة للغة
ومغذية للآداب ومطعمة للفكر ووثيقة الصلة بالهوية ولعل تلك القضايا تجد بعض الإجابات
المصرية فيما لم يكن من قبيل المصادفة أن رفاعة الطهطاوي مؤسس مدرسة الألسن
والرائد العظيم في الترجمة هو ذاته أحد أبرز الآباء الثقافيين المصريين .
وبالصراحة كلها فان الإعلان كل عام عن فوز أديب بجائزة نوبل في الآداب كثيرا ما يأتي
كاشفا عن فداحة أشكاليات الترجمة في مصر والعالم العربي مع حقيقة موجعة وهى أن
أي عمل للفائز "بأم الجوائز الأدبية العالمية" لم يترجم بعد للغة العربية .
وواقع الحال أن الخلل العميق في واقع الترجمة العربية لا يقتصر حتى على الأدب المكتوب
بلغات مثل الصينية أو الكورية واليابانية فهناك أعمال أدبية بالغة الأهمية في
لغات أوروبية مثل الإيطالية والألمانية لم تعرف طريقها بعد للقارىء العربي ليكون
هذا الغياب شاهدا على أزمة الترجمة في مصر والعالم العربي .
أما الدكتورة رابعة حمو فتنوه بأن اللغة العربية لها مكانة متميزة في نظر الباحثين
الغربيين والمستشرقين المنصفين الذين عرفوا خصوصيتها وراعهم قيمتها وجمالها كالمستشرق
الأمريكي "كوتهيل" الذي قال :"قليل منا نحن الغربيين من يقدر اللغة العربية
حق قدرها من حيث أهميتها وغناها" مضيفا أن "اللغة العربية لها من اللين والمرونة
ما يمكنها من التكيف وفق مقتضيات العصر" .
ومن نافلة القول الحديث عن أهمية الترجمة فى عصر ثورة المعلومات واتساع دائرة الفكر
الإنساني وصعود "اقتصاد المعرفة" وان الترجمة تشكل "لحظة عبور وسفر إبداعي بين
لغتين وفكرين وهويتين" كما أن "الترجمة ليست مجرد عملية لغوية بسيطة وأنما هي عبور
فكرى شديد التعقيد من سياق حضاري لسياق حضاري آخر ومن لغة إلى أخرى" .
ويرى الشاعر العراقى المقيم في ألمانيا عبد الكريم كاظم أن الترجمة هي الوجه الثاني
لفعل الكتابة "فكل مترجم يعرف من خلال تجربته ومعرفته ووعيه النقدي انه لا يملك
دائما وبشكل دقيق كل ما يكتبه وانه يترجم كي يكشف الذي يجهله ونجهله".
ومن هنا - كما يقول كاظم - ينطلق عمل الترجمة من معرفة لغوية وجمالية دقيقة وواضحة"
منوها بأن للترجمة "متعتها ونشوتها كما أن لها تعقيداتها اللغوية واللفظية والرمزية"
ففعل الترجمة فى كثير من الأحيان " إبداع مواز للأبداع" بقدر ما تمثل الترجمة
بحق جسرا للتواصل بين الثقافات وقاطرة طليعية للنهضة .
تحية للمترجمين بأرض الكنانة في يومهم هذا ..تحية لهم في يوم دال على عرس اللغة وفتوحات
الكشف وبهاء الكلمة وشرف الانتماء للوطن ومشروع التقدم في رحلة المصير والمسير.