القاهرة 26 نوفمبر 2014 الساعة 03:04 م
دق جرس الهاتف مبكراً قبل أن يأخذ أي منا حمامه الصباحي، شعرتُ بجفاف في فمي لأنني كنت متأكدة أن جرس الهاتف له علاقة بشيء قد حدث لأبي. ربما اقتحم الجنود المنزل وأطلقوا عليه الرصاص حتى يأمنوا جانب جريدة ذي ستاندرد. انتظرتُ أن تنادي علينا العمة افيوما التي ظلت تتحدث للحظات في الهاتف، وعندما أقبلت علينا بدا وجهها مكتئباً ولم تنطلق ضحكتها كالمعتاد بقية اليوم، ونهرت تشيما عندما أراد الجلوس بجانبها قائلة "دعني وشأني". اختفى جزء من شفتها السفلى داخل فمها وارتجف فكها وكأنها تلوك شيئاً.
حضر الأب أمادي أثناء العشاء، وجذب مقعداً من حجرة المعيشة وجلس واحتسى ماءً من كأس زجاجي أحضرته له أماكا، التي عندما سألته عما قام به خلال اليوم قال:
- لعبت كرة القدم في الاستاد، وبعد ذلك اصطحبتُ بعض الصبية إلى المدينة
قاطعه أوبيورا
- لماذا لم تخبرني أنك ستلعب اليوم يا أبي
- آسف، نسيت إخبارك.. لكن سأصطحبك أنت وجاجا معي في نهاية الأسبوع لنلعب سوياً
لم أستطع النظر إليه لأنني لم أعرف أن قساً يمكنه لعب كرة القدم، وبدا لي ذلك أمراً آثماً ومبتذلاً. وعندما التقتْ عيناه بعيني سارعت بالنظر بعيداً
- ربما تلعب معنا كامبيلي أيضاً
سماعي اسمي بصوته ذي الإيقاع اللحني أصابني بالتوتر، ولم اأشعر بأية رغبة في قول شيء
- اماكا أرادت اللعب معنا عندما جئت لأول مرة إلى هنا، لكن الآن تقضي وقتها في سماع الموسيقى الإفريقية وفي الحلم بأحلام غير واقعية
ضحك أبناء عمتي، وكانت أماكا أكثرهم ضحكاً، واكتفى جاجا بالابتسام، ولم تضحك العمة افيوما التي كانت تنظر إلى البعيد
- افيوما.. ماذا حدث؟
هزت رأسها وأطلقت تنهيدة، وكأنها أدركت فجأة أنها لم تكن بمفردها.
- تلقيت رسالة من قريتنا هذا الصباح تفيد بأن والدنا مريض منذ ثلاثة أيام.. أريد إحضاره إلى هنا
في صوت حاد، سألت أماكا:
- بابا نوكوو مريض؟.. متى علمت بذلك يا أمي؟
جارته الطيبة نوامجبو تحدثت إليّ هذا الصباح.. لقد توجهتْ إلى أوكبي حتى تجد هاتفاً
- كان يتعين عليك إخبارنا!
- ألم أخبركم الآن؟
- متى يمكننا الذهاب إلى أبا يا أمي؟
بهدوء سأل أوبيورا الذي بدا لي في تلك اللحظة أنه أكبر في العمر من جاجا
- ليس لدي وقود يكفي في السيارة، ولا أدري متى يأتي الوقود، ولا يمكنني تحمل استئجار تاكسي، وإذا استعنت بالمواصلات العامة كيف يمكنني إحضار رجل عجوز مريض إلى هنا في تلك الحافلات المكدسة بالراكبين، التي لا يمكن للمرء من شدة الزحام أن يبعد وجهه عن رائحة إبط الواقف أمامه
هزت العمة افيوما رأسها
- أنا مرهقة.. مرهقة جداً
قال الأب أمادي في هدوء:
- لدينا بعض الوقود الاحتياطي للطوارئ في كنيستنا.. أستطيع أن أحصل لك على جالون منه.. هوني على نفسك
هزتْ رأسها وشكرته، لكن وجهها ظل على حاله مكتئباً لبعض الوقت حتى أن صوتها لم يرتفع كثيراً عند الغناء بين الصلوات. في تلك الأثناء، كنتُ أفكر ملياً في المكان الذي سينام فيه الأب نوكوو.. فحجرة المعيشة يشغلها الصبيان، وحجرة العمة افيوما لا تتسع لأحد لكونها تستخدم كخزانة طعام ومكتبة وحجرة نوم لها وتشيما. جال بذهني احتمال أن يشاركنا الأب نوكوو حجرة النوم التي نشغلها أماكا وأنا، وما إذا كان يتحتم عليّ عندئذ أن أعترف لقس الكنيسة بأن وثني شاركني الحجرة، وأن أصلي للرب حتى لا يكتشف بابا أبداً أن الأب نوكوو زارنا وأنني شاركته الحجرة.
قبل انتهائنا من الصلوات، صلتْ ماما من أجل الأب نوكوو، طالبة من الرب أن يلمسه بيده الشافية، وطلبتْ من السيدة العذراء المباركة أن تصلي من أجله، ومن الملائكة أن تتولى أمر العناية به.
جاء قولي "آمين" متأخراً قليلاً ويشوبه قدر قليل من الدهشة لأن بابا عندما يصلي من أجل الأب نوكوو كان يسأل الرب فقط أن يهديه إلى الدين حتى ينقذ نفسه من نار الجحيم.
***
مبكراً في صباح اليوم التالي، حضر الأب أمادي في هيئة لا تنم عن كونه قساً بدرجة أكثر من المرة السابقة.. يرتدي بنطلوناً كاكي اللون يصل حتى أسفل الركبة، وبدا وجهه في أشعة شمس الصباح غير حليق، تتناثر على فكيه نقاط سوداء صغيرة. صفَّ سيارته إلى جانب سيارة العمة افيوما، وجاء بوعاء الوقود وخرطوم قديم بالحديقة
- دعني أقوم بشفط هواء الخرطوم حتى يمكن سحب البنزين من الوعاء يا أبي
- فقط، احرص على ألا تبتلع شيئاً منه
أدخل أوبيورا أحد طرفي الخرطوم في وعاء البنزين ثم أدخل الطرف الثاني في فمه. راقبتُ انتفاخ وجنتيه، ثم بسرعة مفاجئة أخرج طرف الخرطوم من فمه وأدخله في خزان بنزين سيارة العمة افيوما. لفظ أوبيورا رشلش اللعاب من فمه ثم أعقب ذلك بسعال.
- هل ابتلعت شيئاً من البنزين؟
سأل الأب أمادي مربتاً بيده على ظهر أوبيورا الذي قال مزهواً "لا" واستمر في السعال
- جيد، أنت تعلم أن شفط هواء خرطوم البنزين مهارة يحتاجها المرء هذه الأيام
ابتسامة الأب أمادي الساخرة لم تفد كثيراً في إخفاء ملامحه التي تشبه الصلصال في نعومتها. خرجتْ العمة افيوما مرتدية رداءً أسود وبغير أحمر شفاه لتعانق الأب أمادي
- شكراً يا أبي
- يمكنني توصيلك إلى أبا بسيارتي بعد ظهر اليوم
- لا يا أبي، شكراً.. سأذهب مع أوبيورا
استقلت العمة افيوما سيارتها وإلى جوارها أوبيورا في المقعد الأمامي، وسريعاً غادر الأب أمادي، وصعد تشيما إلى شقة أحد الجيران، وذهبت أماكاإلى غرفتها وأدارت جهاز التسجيل فارتفع صوت الموسيقى إلى درجة أنني سمعتها بوضوح من مكاني بالشرفة، وأمكنني تمييز نغمات أونييكا اونوينو. جلس جاجا بجانبي وفي يده مقص كبير، ومعي الكتاب الذي قاربتُ على الانتهاء من قراءته. في همس قلت:
- أتعتقد أننا لسنا أسوياء؟
- ماذا؟
- أماكا قالت أننا لسنا أسوياء
- غير سوي.. ماذا تعني؟
سؤال لم نكن نريد له إجابة.. لحظات وغادر جاجا إلى الفناء ليشذب بعض الشجيرات.
بعد الظهر، عندما أوشك طنين النحل في أرجاء الحديقة أن يسلمني للنوم، عادت العمة افيوما. ساعد أوبيورا الأب نوكوو في الترجل من السيارة، وأمسك به في الطريق إلى الشقة. هرعت أماكا خارجة وعانقته بلطف. كانت عيناه واهنتين، وجفناه متدليان كأنهما يحملان أثقالاً، لكنه ابتسم وقال شيئاً جعل اماكا تضحك.
- بابا نوكوو
- كامبيلي
قالها في خفوت ووهن. أرادت العمة افيوما من الأب نوكوو أن يستلقي على سرير أماكا، لكنه قال انه يفضل الأرض.أحضر أوبيورا وجاجا حاشيات ووضعوها على الأرض، وقامت العمة افيوما بمعاونة الأب نوكوو على أن يستلقي على مهل، وسرعان ما أغلق عينيه بالرغم من أن جفن عينه التي تكاد تفقد بصرها ظل مفتوحاً قليلاً، وكأنه يختلس النظر إلينا. بدا في استلقائه أكثر طولاً، فتذكرتُ قوله أنه في شبابه كان يمد ذراعه إلى أعلى الشجرة ويقتطف ثمارها بسهولة، قالت أماكا:
- سأعد عشاءً يحبه جدي
- أتمنى أن يأكل لأن تشينيلو قالت انه يجد صعوبة في ابتلاع الماء في اليومين الأخيرين
كانت العمة افيوما ترمق الأب نوكوو، وفي لطف تربِّتْ براحة يدها على الجلد المتشقق في باطن قدمه كتشققات في حائط. سألت أماكا:
- ستأخذينه إلى المركز الطبي اليوم أم صباح غد، ماما؟
- أنسيت أن الأطباء في إضراب منذ الكريسماس؟.. لقد تحدثتُ هاتفياً مع الدكتور ندوما وأخبرني بحضوره هذا المساء
بعد ساعات قليلة، وأثناء ترجله من سيارته البيجو 504 الحمراء، علمنا جاجا وأنا من أماكا أن الدكتور ندوما يقطن في مارجريت كارترايت افنيو في منزل من طابقين وحديقة كبيرة، وأمامه لافتة تحذر من الكلاب، وأنه منذ بدأ الأطباء في الإضراب قام بفتح عيادة صغيرة له في المدينة وانها ذهبت إليها عند إصابتها بالملاريا لتحقن بالكلور بحقنة قامت الممرضة بتعقيمها بماء يغلي على موقد كيروسين يخرج دخاناً. بدت اماكا سعيدة بحضور الدكتور ندوما إلى المنزل، لأن الدخان والهواء الفاسد في العيادة ربما يتسببان في اختناق الأب نوكوو.
الابتسامة الدائمة الملتصقة بوجه الدكتور ندوما تجعله من السهل عليه إبلاغ المريض بأخبار سيئة عن مرضه. ضحك مع أماكاوصافح جاجا وأنا، وتبعته أماكا إلى حجرتها لكي يلقي نظرة على الأب نوكوو. قال جاجا:
- لقد فقد الكثير من وزنه وأصبح جلداً على عظم
كنا جالسين جنباً إلى جنب في جزء من الشرفة وقد غربت الشمس وهبت نسمة هواء لطيفة. وبينما الكثير من أطفال الشقق المجاورة يلعبون كرة القدم في الفناء ويضحكون مع كل ضربة كرة على جدران الكاراج، صاح صوت أجش من شقة علوية "إذا لم تمتنعوا عن ضرب الكرة في جدران الكاراج سأقطع آذانكم".
- هل تعتقد أن بابا سيكتشف الأمر؟
- ماذا؟
شبكتُ أصابعي معاً.. كيف لا يعلم جاجا ما أعني؟
- الأب نوكوو هنا معنا في نفس المنزل
- لا أدري
نغمة صوته جعلتني أستدير وألتفت إليه. لم يكن عاقداً حاجبيه قلقاً مثل تأكدي من حاجبي المعقودين.
- هل أخبرت العمة افيوما عن أصبعك؟
شعرتُ أنه ما كان يتعين عليّ أن أسأله. لكن الفقاقيع المتجمعة في حلقي وتمنعني من الكلام لم تكن تجمعت، لأنها لا تتجمع ولا يعوقني شيء عن الحديث عندما أكون وحدي مع جاجا
- سألتني وأخبرتها
كان يدق بقدمه على أرضية الشرفة في إيقاع نشط. حدَّقتُ في يدي وأظافري القصيرة التي اعتاد بابا قصها، وأنا أجلس بين ساقيه ووجنته تمس وجنتي برفق، إلى أن كبرت لأقصها بنفسي. هل نسي جاجا أن هناك أشياء كثيرة جداً لم يكن يتاح لنا أبداً معرفتها؟ عند سؤال البعض عن أصبع يده، كان دائماً يقول إن شيئاً ما حدث له بالمنزل، وعلى هذا النحو لم يكن يكذب ويدعهم يتخيلون أن السبب هو حادث ربما يتصل بباب ثقيل أو شيء من هذا القبيل. أردتُ أن أسأله عن سبب إخباره العمة افيوما لكنني أحجمت، ربما لأنه سؤال هو نفسه ربما لا يعرف إجابة له. قال وهو ينهض واقفاً:
- أنا ذاهب لأغسل سيارة العمة افيوما التي غطاها الغبار.. أتمنى عودة المياه حتى أفعل ذلك بسهول.
تابعته بنظري. لم يسبق له أن نظف سيارة أبداً في منزلنا. بدا عريض الكتفين أكثر مما كان، فتساءلتُ عما إذا كان من الممكن لكتفي مراهق أن يصبحا عريضين أكثر خلال أسبوع واحد. ثقل هواءالمساء برائحة الغبار وأوراق الشجر الملقاة على العشب والتوابل القادمة من المطبخ. تناهى إلى سمعي صوت دقات قدم جاجا على إيقاع أغنية بالاجبو تقوم العمة افيوما وأبناؤها بغنائها في صلواتهم.
بينما أجلس في الشرفة أقرأ، غادر الدكتور ندوما بعد أن تبادل حديثاً ضاحكاً مع العمة افيوما التي سارت معه إلى سيارته، مؤكداً أنه ما كان يمكنه رفض دعوتها على العشاء لو لم يكن هناك مرضى في انتظاره بعيادته، خاصة وأن رائحة الحساء التي تعده أماكا شديد الإغراء.
انتقلتْ العمة افيوما إلى الشرفة لتتابع سيارة الدكتور ندوما وهي تغادر المكان. التفتتْ إلى جاجا الذي ينظف سيارتها المتوقفة قائلة "شكراً لك، بابا". للمرة الأولى سمعتها تخاطبه "بابا" مثلما تخاطب أبناءها في بعض الأحيان. عاد جاجا إلى الشرفة وقال لها "هذا لا شيء يا عمتي"، ثم في شيء من الزهو سأل:
- ماذا قال الدكتور؟
- يريد منا أن نجري له بعض الاختبارات. سأصحبه غداً إلى المختبر الذي لايزال مفتوحاً بالمركز الطبي
***
في الصباح اصطحبتْ العمة افيوما الأب نوكوو إلى المركز الطبي للجامعة، وعادت بعد قليل وعلامات الاستياء على وجهها وشفتيها لأن موظفي المختبر أيضاً مضربون عن العمل، ولذلك لم يجر الأب نوكوو الاختبارات اللازمة. حدقتْ في نقطة لا تيعد كثيراً وقالت بصوت خفيض أنها ستضطر إلى البحث عن مختبر خاص في المدينة. ثم في صوت أكثر انخفاضاً قالت إن المختبرات الخاصة رفعت أسعارها بدرجة كبيرة حتى أن اختبار حمى التيفود البسيط يكلف أكثر مما يكلفه شراء الدواء لعلاج المرض. كانت خطوط القلق ترتسم على جبينها وهي تمسك بالوصفة العلاجية التي كتبها الدكتور ندوما.
في ذلك المساء، تحسنت حالة الأب نوكوو بعض الشيء، وأمكنه تناول العشاء، وبدا جبين العمة افيوما يتحرر قليلاً من خطوطه وتجاعيده، وعلت وجه أماكا ابتسامة صامتة أظهرت الفراغ بين سنتيها الأماميتين، هذه الابتسامة التي تعتلي وجهها دائماً في وجود الأب نوكوو الذي اعترض على الاهتمام المبالغ فيه من قبل العمة افيوما وأماكا أثناء الإلحاح عليه لتناول المزيد من كرات البطاطا المغموسة في الحساء قبل ابتلاع أقراص الدواء، وتمتم قائلاً:
- عندما يتقدم المرء في السن يعاملونه معاملة الأطفال
فجأة أطلق جهاز التليفزيون صوت خشخشة أشبه بصوت حب رمل جاف على صفحة ورقة، ثم انقطع التيار الكهربائي ولفَّتْ الحجرة عباءة سوداء. زمجرت أماكا
- ليس هذا الوقت المناسب لانقطاع التيار.. أنا أريد مشاهدة شيء بالتليفزيون
تحرك أوبيورا في الظلام في اتجاه مصباحي الكيروسين بمنتصف الحجرة وأشعلهما، وفي الحال شممتُ رائحة دخان الكيروسين الذي دمعت له عيناي وتأثر بها حلقي. قال أوبيورا:
- جدي نوكوو، احكي لنا حكاية فلكلورية كما في أبا.. إنها أفضل من التليفزيون على أية حال
- لكن أخبرني أولاً كيف وصل هؤلاء الناس إلى داخل هذا الصندوق التليفزيون
ضحك أبناء عمتي على قول الأب نوكوو الذي كثيراً ما يقوله ليضحكهم. عرفتُ ذلك من الطريقة التي بدأوا بها ضحكهم حتى قبل أن يكمل كلامه. قال تشيما بصوته الحاد:
- أخبرنا لماذا للسلحفاة ذلك الغطاء الصلب المتشقق
وبالإنجليزية قال أوبيورا:
- أحب أن أعرف لماذا تتواجد السلحفاة كثيراً في قصص شعبنا
- أخبرنا بقصة ذلك الغطاء الصلب المتشقق للسلحفاة
أطلق الأب نوكوو صوتاً لإخلاء ما تراكم في حلقه ويعوق خروج صوته واضحاً
- في عهود قديمة تتحدث فيها الحيوانات، انتشرت مجاعة وجفت الحقول وتشققت التربة، وقتل الجوع الكثير من الحيوانات، ومن نجا منها لم يكن لديه القوة لكي يرقص رقصة الحداد في الجنائز. وفي يوم من الأيام اجتمع كل ذكور الحيوانات ليقرروا ماذا يمكنهم عمله قبل أن يقضي الجوع على القرية بكاملها. توافدت جميع الحيوانات إلى مكان الاجتماع. ضعف صوت زئير الأسد حتى بات يشبه صوت الفأر. والسلحفاة تحمل غطاءها الثقيل في صعوبة. فقط الكلب بدا ممتلئاً ولا تظهر عظامه تحت جلده، لذلك أصبح مثار تساؤل جميع الحيوانات: كيف ظل الكلب بحالة جيدة مستمرة. كان جواب الكلب "الغائط هو طعامي دائماً".
اعتادت الحيوانات الضحك من الكلب الذي يتغذى هو وعائلته على الغائط في حين ليس في استطاعة أي حيوان آخر تخيل أن يكون الغائط طعامه. وفي اجتماع حضره جميع الحيوانات، اتخذ الأسد موقعه كرئيس للاجتماع وقال: "طالما أننا لا يمكننا تناول الغائط كغذاء مثل الكلب فيتحتم علينا إذن أن نفكر في طريقة نطعم بها أنفسنا". فكرت الحيوانات طويلاً إلى أن اقترح أرنب أن تقوم كل الحيوانات بقتل أمهاتها والتغذي عليها. لم يوافق الكثير من الحيوانات على الاقتراح لأنهم مازالوا يتذكرون المذاق الحلو لحليب أمهاتهم. لكن في النهاية تمت الموافقة على الاقتراح باعتباره أفضل البدائل، طالما سيموت الجميع على أية حال إذا لم يتوصلوا إلى حل آخر.
في ضحكة مجلجلة قال تشيما:
- لا يمكنني أبداً أن آكل ماما
قال أوبيورا:
- ربما ليست فكرة جيدة، فجلودهن عصية على المضغ
استمر الأب نوكوو في الحكى.
- لم تجد الأمهات مانعاًفي التضحية بأنفسهن. وكل أسبوع يتم قتل أم وتتشارك الحيوانات في أكل لحمها. وسرعان ما بدت الحيوانات في صحة جيدة مرة ثانية. وقبل بضعة أيام من موعد قتل أم الكلب، ركض الكلب وأطلق نحيبه مغنياً أغنية الحداد على أمه التي ماتت نتيجة إصابتها بمرض. أبدت بقية الحيوانات تعاطفها مع الكلب وعرضت معاونتها له في دفنها بعد رفضها التغذي عليها. لكن الكلب رفض أية مساعدة وقال إنه سيدفنها بنفسه مبدياً حزناً لأنها لم تحصل على شرف الموت مثل بقية الأمهات اللاتي ضحين بأنفسهن من أجل القرية.
بعد بضعة أيام فقط كان ذكر السلحفاة في طريقه إلى مزرعته العطشى عله يجد شيئاً يأكله، وعند توقفه طلباً للراحة بالقرب من شجيرات قصيرة ذبلت أوراقها وأغصانها، أمكنه رؤية الكلب منشغلاً بالغناء وهو يتطلع إلى أعلى. جال بذهن السلحفاة أن فجيعة الكلب في أمه ذهبت بعقله. لماذا يغني الكلب ووجهه إلى السماء؟ أرهف السلحفاة أذنيه واستمع إلى غناء الكلب:
"أنزلي الحبل وسأصعد إليك". توجه السلحفاة إلى الكلب وأصبحا وجهاً لوجه. أقرَّ الكلب بحقيقة أن أمه لم تمت وأنها صعدت إلى السماء وتعيش مع أصدقاء أثرياء، وتقوم على تغذيته يومياً من السماء، ولذلك أصبح في صحة جيدة. قال ذكر السلحفاة: "أيها الكاذب، انتظر حتى تعرف القرية ما الذي فعلته". ولأن السلحفاة يتسم بالمكر كعادته دائماً، لم يعتزم أن يخبر القرية لعلمه أن الكلب سيعرض عليه اصطحابه معه إلى السماء، وبالفعل عرض الكلب عليه ذلك، فتظاهر السلحفاة بأنه سيفكر في الأمر. وعندما قام الكلب بالغناء مرة أخرى، نزل الحبل من السماء وأمسك الاثنان به وارتفع بهما.
لم تكن أم الكلب راضية عن إحضار ابنها لصديقه، لكنها قامت على العناية بهما على أي حال. أكل السلحفاة كل ما قدم له من معجون البطاطا والحساء وتجرع كأساً ممتلئة بنبيذ البلح. بعد انتهائهما من الطعام نزلا بمساعدة الحبل إلى الأرض، وعندئذ أخبر السلحفاة الكلب بأنه لن يخبر أحداً بما حدث طالما أنه سيأخذه كل يوم لتناول الطعام في السماء. ولم يكن هناك خيار أمام الكلب غير القبول. وفي يوم من الأيام قرر السلحفاة أن يصعد إلى السماء بمفرده حتى يمكنه تناول نصيب الكلب من الطعام بالإضافة إلى نصيبه، فذهب إلى منطقة الشجيرات الجافة وشرع في الغناء مقلداً صوت الكلب، وعندئذ نزل الحبل. في تلك الأثناء كان الكلب قريباً من المكان وشاهد ما حدث. جن جنون الكلب وبدأ يغني بصوت مرتفع "ليس ابنك ذلك الصاعد إلى السماء.. اقطعي الحبل يا أمي.. إنه السلحفاة الماكر".
وسأل أوبيورا بالإنجليزية:
- أليس ما يدعو إلى التساؤل هو كيف صعدت أم الكلب إلى السماء؟
أضافت أماكا:
- أو من هؤلاء الأصدقاء الأثرياء في السماء؟
- من المرجح أن يكونوا أسلاف الكلب
ضحك أبناء عمتي وجاجا، كما ضحك الأب نوكوو أيضاً ضحكاً هادئاً من الحلق وكأنه يعرف الإنجليزية، ثم فرد جسمه وأغلق عينيه. كنت أراقبهم الواحد بعد الآخر، وتمنيتُ لو كنتُ طرفاً في أحاديثهم وضحكاتهم.