القاهرة 25 نوفمبر 2014 الساعة 03:09 م
يدوِّي الضحك دائماً في منزل العمة افيوما، ويتردد صداه في كل أرجائه، ويرتفع صوت النقاش بنفس السرعة التي يتلاشى بها، وعادة ما تتواصل فيه صلوات الصباح والمساء وأغنيات تنشد بالاجبو مصحوبة بتصفيق الأيدي، وإن كان فيه نصيب الفرد من اللحم في الطعام لا يزيد عن قطعة بعرض أصبعين متلاصقين وبطول يصل إلى نصف الأصبع. نظيفة دائماً شقة العمة افيوما، فأماكا تقوم بتنظيف أرضية الشقة بفرشاة خشنة، وأوبيورا مهمته الكنس، وتشيما يرتب وضع الوسائد على المقاعد والأسرّة. وغسيل الأطباق نتناوبه جميعاً فيما بيننا بعد أن قامت العمة افيوما بضمنا جاجا وأنا إلى الجدول المنظم لمواعيد غسيل الأطباق. وبعد أن انتهيتُ من غسيل أطباق الغداء وقمت بوضعها في الطاولة حتى تجف، فاجأتني أماكا بجمعها من الطاولة ثم غمرتها ثانية في الماء
- أبهذه الكيفية تغسلين الأطباق في منزلك؟.. أم أن غسيل الأطباق ليس ضمن جدولك الجميل؟
وقفتُ أحدِّقُ في أماكا متمنية وجود العمة افيوما لكي تتحدث نيابة عني، ثم حدَّقتْ هي في وجهي للحظة قبل أن تغادر مسرعة. لم تقل لي أي شيء آخر حتى وصول صديقاتها في فترة بعد الظهر أثناء وجود العمة افيوما بصحبة جاجا في الحديقة، بينما الصبيان يلعبان بالخارج. على نحو عارض قالت أماكا:
-كامبيلي.. هؤلاء صديقاتي من المدرسة
قالت الفتاتان "هالو" فابتسمتُ. كان لهما نفس شعر اماكا القصير وأحمر شفاه لامع على شفتيهما. بدا بنطلون كليهما ضيقاً جداً أثناء قيامهما بتحديق النظر في صورتيهما في المرآة، وبتصفح مجلة أمريكية على غلافها امرأة بشرتها بنية وشعرها عسلي، وبالحديث عن مدرس الرياضيات الذي لا يعرف الإجابات على الاختبارات التي يضعها بنفسه، وعن فتاة ارتدت جيبة قصيرة عند ذهابها إلى درس مسائي بالرغم من ساقيها الممتلئتين، وتبادلا الهمس عن صبي وسيم.
- وسيم لكنه ليس جذاباً
قالت التي ترتدي قرطاً يتدلى من إحدى أذنيها وقرطاً آخر لامعاً من الذهب الزائف في الأذن الثانية. لم أدرك أن الفتاة الثانية تسألني: "أهذا شعرك الحقيقي؟"، لكن بسرعة قالت أماكا "كامبيلي!". أردتُ أن أخبر الفتاة أنني لا أضع باروكة شعر، لكن الكلمات توقفت في حلقي وهما لا يزالان يتحدثان عن طول شعري وكثافته. رغبتُ في أن أتحدث إليهن وأن أشاركهن الضحك وفي أن أقفز عالياً في نفس المكان مثلهن بغير توقف، لكن شفتي المزمومتين ظلتا على حالهما في عناد. ولأنني لم أرد أن تصدر عني تأتأة أو فأفأة فقد بدأتُ في السعال وركضتُ إلى الخارج في اتجاه دورة المياه.
أثناء جلوسي للعشاء في ذلك المساء، سمعت صوت أماكا:
- أأنت متأكدة أن أمرهما عادي؟.. لقد تصرفتْ مثل شاة أثناء وجود صديقاتي
لم ترفع أماكا أو تخفض من صوتها الذي انساب واضحاً من المطبخ، كذلك جاء رد العمة افيوما الحازم بالإنجليزية:
- أماكا، أنت حرة في آرائك، لكن يجب أن تعاملي ابنة عمك باحترام. أتفهمين هذا؟
- كان ذلك مجرد سؤال
- ليس من الاحترام في شيء أن تصفي ابنة عمك بالشاة
- لقد تصرفتْ بغرابة.. حتى جاجا يبدو غريباً.. هناك شيء ما خطأ فيهما
اهتزتْ يدي أثناء محاولتي تسوية شريحة خشبية مستطيلة من سطح الطاولة كانت قد تشققت وتقوست حول نفسها، ويسير بالقرب منها صف من النمل الصغير بلون الزنجبيل. كانت العمة افيوما قد أخبرتني بأن النمل لا يؤذي أحداً ولا يمكن في الحقيقة التخلص منه، وهو موجود بالمبنى منذ إنشائه. مددتُ بصري نحو حجرة المعيشة لكي أعرف إذا كان جاجا قد سمع ما قالته أماكا، لكنه كان مستغرقاً في مشاهدة التليفزيون مستلقياً على الأرض إلى جوار أوبيورا وكأنه على هذا الحال طوال حياته.
طلبتْ العمة افيوما مني أن ألحق بها وجاجا في الحديقة لكي نلتقط بعناية أوراقاً بدأت تذبل في شجرة نبات له منافع طبية.. سألتْ:
- أليست جميلة؟.. انظري إلى هذا.. الأخضر والبنفسجي والأصفر في الأوراق، وكأن يد الله تمسك بفرشاة ألوان.
- نعم
كانت تحدق في وجهي، فسألت نفسي ما إذا كان قد جال بذهنها أن صوتي يفتقد لحماس صوت جاجا أثناء حديثهما حول الحديقة. بعض الأطفال من الشقق العلوية جاءوا وجلسوا يراقبوننا. كانوا خمسة ثيابهم جميعاً ملطخة ببقع طعام. يتحدثون فيما بينهم بكلمات سريعة. التفت إليّ واحد منهم وسألني عن مدرستي في انوجو. تعثر الكلام في فمي، فأمسكتُ ببضع أوراق نبات ذابلة بإحكام واقتلعتها بقوة، ونظرت إلى السائل اللذج الذي يقطر من سيقان النبات. قالت العمة افيوما أن بإمكاني الذهاب إلى الداخل إذا أردت، وأخبرتني عن كتاب انتهت من قراءته مؤخراً موجود على الطاولة في حجرة نومها وأكدت لي أنني سأحبه. توجهتُ إلى حجرتها ووجدتُ كتاباً غلافه أزرق لكن لونه حال بعض الشيء، وعنوانه "رحلات إكيوانو" أو "حياة جوستافوس فاسا الإفريقي".
جلستُ في الشرفة والكتاب على ركبتي، أرقب طفلة تطارد فراشة تثب إلى أعلى وأسفل، وجناحاها بلونيهما الأصفر والأسود يضربان الهواء برفق، وكأنها تشاكس الفتاة الصغيرة لتركض هنا وهناك، فتتقافز كرة شعرها المعقود أعلى رأسها. يجلس أوبيورا في الشرفة أيضاً بعيداً عن الظل، يغمض عينيه نصف إغماضة خلف عدسات نظارته السميكة ليقيهما من الشمس، وذلك أثناء مراقبته الفتاة والفراشة، مكرراً نطق الاسم "جاجا" ببطء بعد اقتسامه إلى مقطعين: جا.. جا
- آجا يعني الرمل أو مهبط الوحي، لكن جاجا؟.. ما معنى جاجا؟.. ليست في لغة الاجبو
- في الحقيقة اسمي تشوكووكا، وجاجا اسم أطلق عليّ في طفولتي وظل لصيقاً بي
كان جاجا جاثياً على ركبتيه، مرتدياً بنطلوناً قطنياً، ومع قيامه بنزع الأعشاب الضارة من الحديقة تتموج عضلات ظهره العاري. التفتتْ العمة افيوما إليه وقالت:
- أقصى ما كان يقوله وهو رضيع "جا.. جا" لذلك كان كل شخص يناديه جاجا، وحينئذ قلت لأمه انه اسم سهل ومناسب ويذكر باسم جاجا ملك ابوبو
سأل أوبيورا:
- ملك ابوبو؟.. الملك العنيد؟
قالت العمة افيوما:
- الجريء.. كان ملكاً جريئاً
- ماذا يعني كونه ملكاً جريئاً يا أمي؟.. ماذا كان يفعل؟
- كان ملكاً على شعب ابوبو، وعندما أتي البريطانيون، رفض السماح لهم بالتحكم في كل الأعمال التجارية. لم يقم ببيع روحه نظير حفنة بارود مثلما فعل باقي الملوك، لذلك قام البريطانيون بنفيه إلى الهند الغربية ولم يعد أبداً إلى أبوبو
أمسكتْ بوعاء رشاش الماء وبدأتْ ترش الماء على صف زهور صفراء صغيرة، وتابعتْ قولها:
- هذا شيء محزن.. ربما كان لا يتعين عليه أن يكون جريئاً
سألتُ نفسي ما إذا كان تشيما قد فهم ما قالته العمة افيوما مثل "قاموا بنفيه" أو "يبيع روحه نظير حفنة بارود"، فهي كانت تتحدث وكأنها تتوقع منه ذلك.
- من المفيد في بعض الأحيان أن يكون المرء جريئاً.. فالجرأة مثل الماريجوانا التي لا ضرر منها إذا استعملت على نحو صحيح
صوتها – وليس مضمون قولها – جعلني أنظر إليها فأجدها تتحدث إلى تشيما وأوبيورا، بينما هي ترمق جاجا بعينيها. ابتسم أوبيورا وضغط بأصبعه على إطار نظارته إلى أعلى.
- لم يكن جاجا ملك ابوبو قديساً على أي حال، فقد باع شعبه لتجار الرقيق، إلى جانب أن البريطانيين كسبوا في النهاية ولم تجد الجرأة كثيراً
- البريطانيون كسبوا الحرب، لكنهم خسروا معارك كثيرة
وعيناي تثبت فوق سطور صفحة الكتاب أمامي، سألت نفسي "كيف فعلها جاجا؟".. "كيف استطاع التحدث في سهولة ويسر؟".. "أليس لديه فقاقيع هواء داخل حلقه تعيد الكلمات إلى الحلق تاركة فقط التأتأة والفأفأة؟". نظرتُ في وجهه ملياً لأرقب بشرته الداكنة وقد غطتها قطرات عرق تومض في الشمس. لم أر ذراعه تتحرك بهذه الكيفية من قبل، ولم أر أبداً الوميض الثاقب في عينيه أثناء وجوده في حديقة العمة افيوما.
- ماذا حدث لأصبعك الصغير؟
سأل تشيما، فنظر جاجا إلى يده وكأنه لاحظ في التو الأصبع المشوه. قالت العمة افيوما بسرعة:
- تعرض جاجا لحادث.. تشيما، اذهب وأحضر لي وعاء الماء.. يكاد يكون فارغاً فيمكنك حمله
حدقتُ في العمة افيوما، وعندما التقت عيناها بعيني، نظرتُ بعيداً. إنها تعلم إذن. إنها تعلم ما حدث لأصبع جاجا عندما كان في العاشرة من عمره. أخطأ في سؤالين في اختبار الدين ولم يكن الأفضل بين أقرانه. أخذه بابا إلى الطابق العلوي وأغلق الباب. خرج جاجا والدموع تنهمر من عينيه ويده اليمنى تمسك بيده اليسرى. كان بابا يبكي أيضاً وهو يحمل جاجا على ذراعيه مثل رضيع طوال الطريق إلى السيارة ليصحبه إلى مستشفى سان آجنيز. في وقت لاحق أخبرني جاجا أن بابا تجنب يده اليمني لأنها اليد التي يكتب بها.
- هذه على وشك التفتح
خاطبتْ العمة افيوما جاجا مشيرة إلى برعم زهرة
- يومان آخران وتفتح عينيها إلى العالم
- من المرجح ألا أراها.. نكون قدغادرنا
ابتسمت العمة افيوما
- ألا يقولون أن الوقت يطير عندما يكون المرء سعيداُ؟
دق جرس الهاتف. طلبتْ مني العمة افيوما أن أجيبه لقربي من الباب الأمامي. إنها ماما. غمرني شعور بأن شيئاً ما قد حدث لأن بابا يكون المتحدث دائماً، كما أنهما لا يجريان اتصالاً هاتفياً في فترة بعد الظهر. بدا صوت ماما وكأنها في حاجة إلى أن تفرغ ما بأنفها
- والدك ليس هنا.. كان يتحتم عليه أن يغادر المنزل هذا الصباح
- هو بخير؟
- بخير
صمتتْ لفترة أمكنني سماعها تتحدث إلى سيسي، ثم عادت إلى الهاتف وقالت إن جنوداً بالأمس توجهوا إلى مكاتب جريدة ذي استاندرد دون أن يعرف أحد كيف علموا بأماكنها، وكانوا بأعداد كبيرة حتى أنهم ذكّروا الناس في الشارع بمشاهد الحرب الأهلية. أضافتْ أن الجنود أخذوا كل نسخ الجريدة وحطموا الأثاث وماكينات الطباعة، وألقوا القبض على إد كوكر.
- أنا قلقة على والدك.. أنا قلقة على والدك
أعطيتُ جاجا سماعة الهاتف ثم أعطاها للعمة افيوما التي بدا عليها القلق بعد انتهاء المكالمة، فخرجت لتشتري نسخة من جريدة ذي جارديان بالرغم من أنها في العادة لا تشتري جرائد لأنها تكلفها كثيراً من النقود، وتكتفي بقراءة عناوينها أمام طاولات بائعي الصحف عندما يكون لديها وقت.
نشرت جريدة ذي جارديان قصة إغلاق الجنود جريدة ذي ستاندرد في صفحة داخلية بجانب إعلانات أحذية نسائية مستوردة من إيطاليا. لم أدر ما إذا كانت نبرة زهو في صوت أماكا:
- العم ايوجين كان سيضع مثل هذه القصة في صدر الصفحة الأولى بجريدته
عندما تحدث بابا هاتفياً في وقت لاحق، طلب التحدث أولاً إلى العمة افيوما، وبعد ذلك تحدث إلى جاجا، ثم إليّ. قال إنه بخير وإنه يفتقدنا ويحبنا كثيراً جداً، ولم يذكر شيئاً عن جريدة ذي استاندرد أو ماذا حدث لمكاتبها. بعد انتهاء المكالمة قالت العمة افيوما:
- والدكما يريدكما أن تمكثا هنا بضعة أيام أخرى
اعتلتْ وجه جاجا ابتسامة كبيرة، حتى أنني رأيت بخديه غمازتين لم أكن أعلم بوجودهما من قبل.
***