القاهرة 25 نوفمبر 2014 الساعة 02:13 م
نصف ثورة .. لماذا ؟ وإلى أين ؟!
الحالة المصرية فرضت تصورا بأن ما حدث كان مقدمة ثورة
لم تعط فرصة للنضج ، فأصبحت نصف ثورة ، والإنتقال من
سلطة إلى سلطة ، وحين إنخطف الجميع إلى بريق سلطة الدولة
( 21 يناير 2013 )
من حق الشعوب أن تراجع دفاترها في اللحظات الفاصلة من تاريخها ، وأن تطرح أمامها تساؤلا في صيغة جردة حساب : ماذا تحقق .. وإلى أين ؟! والتساؤل هنا قد يصل إلى درجة ( فرض عين ) إذا كانت أحلام الشعوب وتطلعاتها ما زالت حيّة تنبض في عروقها ، وتصّر على عدم التنازل عنها .. وفي حالتنا المصرية ، وبعد عامين من ثورة 25 يناير 2011 فإن الوطن ما زال يرقع الثوب ولا يستبدل الجسد ، ويعيش حاليا حالة البحث عن طريق ، بل ولم نزل نبحث !! وهناك من يتصور أن الحالة أو الأحوال السياسية الحالية في مصر طبيعية ، إذا ما تذكرنا وقائع التاريخ ، فمصر تعيش ولا تزال حالة ثورة بعد زمن طويل من الكبت والقمع ، تراكمت فيه رواسب فوق رواسب ، من مشاكل وعقد ، وفي مثل هذه الأحوال ، وكما حدث في أحوال ثورات كثيرة سبقت في التاريخ ، فإننا أمام ظاهرة واجهت كل الثورات ، وأن هذه طبائع أحوال لا بد أن تفهم ، ويتحتم مساعدتها ، حتى تختصر وقتها ، ويستعيد الوطن توازنه ..
وهناك من يرى أن الحالة المصرية قد تتشابه مع "الحالة الرومانية" فقد استمرت المرحلة الانتقالية في رومانيا قرابة الخمسة عشرة عاما ، وهي من أطول المراحل الانتقالية في أوروبا الشرقية ، لسببين رئيسيين : الأول هو تردي الأوضاع الاقتصادية في رومانيا بشكل كبير بما لم يسمح لها بالتحول الاقتصادي والديمقراطي السريع أو السهل باتجاه المعسكر الليبرالي الرأسمالي ، فقد كان التحول المطلوب بين نقيضين .. والسبب الثاني ، هو تشرذم القوى السياسية ، وضعفها الشديد ، وعدم اتفاقها على رؤية واحدة لمستقبل النظام السياسي أو الاقتصادي للدولة ، وهو ما أدى إلى فراغ سياسي فور سقوط "تشاوشيسكو" لم يتقدم لملئه سوى الصف الثاني من رجال النظام الديكتاتوري الساقط ، وهو ما طرح فكرة أن ما حدث في رومانيا لم يكن ثورة على النظام القديم ، إنما فرصة للصف الثاني من النظام القديم ليحتلوا مواقع السلطة !!
وبالرؤية والقياس نفسهما ـ تقريبا ـ فإن الحالة المصرية طرحت فكرة لدى البعض بأن ما حدث كان مقدمة ثورة ، لم تعط فرصة للنضج ، فأصبحت نصف ثورة ، وأن السبب يرجع إلى الغلطة الكبرى، حين تصور الجميع مرحلة الانتقال وكأنها من سلطة إلى سلطة ، وكأن المطلوب ليس تغيير الدولة ، وإنما تغيير مواقع السلطة وأشخاص الحكام ، فقد انخطف الجميع إلى بريق سلطة الدولة ، وأيهم يسبق غيره ويحصل عليها ، ولم ينشغل الجميع بكيفية إعادة بناء الدولة ومؤسساتها ، والانتقال من حال إلى حال !! وكانت الخطيئة الكبرى ، ونحن نراجع حساباتنا الآن بعد عامين من الثورة ، أن المجلس العسكري كان يرتجل في المرحلة الانتقالية ، وفاتهم طبيعة وحقيقة ومهام المرحلة ، ووصل الأمر إلى سوء فهم مطالب المرحلة الانتقالية ، وسوء فهم إدارتها ، ثم سوء تصرف الأفراد فيها ، والجميع قد فاتهم أن المرحلة الانتقالية هي مرحلة وضع الأساس ، مرحلة تأسيس ومحاولة اختيار أفق للمستقبل وبرؤية يتوافق عليها الجميع ، ومع بدايات هذه المرحلة انفتح المجال واسعا أمام التيار الإسلامي ، بسبب سوء الفهم الذي وقع بين شباب الثورة والمجلس العسكري ، والخلاف بين الطرفين عطل كليهما ، وفتح فجوة أوسع تدفق منها التيار الإسلامي ، وانتهى الأمر بالمرحلة الانتقالية إلى مجرد إعادة توزيع السلطة!!
وهكذا عشنا حالة الثورة ، وما زلنا نعاني بعض آثارها ، ونعيش حاليا حالة البحث عن طريق ، ولم نزل نبحث ، وأخشى أن نصل إلى طريق مغلق بكتل خرسانية لا نعرف كيف نزيحها ، وفي بلد يواجه أزمة خطيرة ، وهو تحد لم تواجهه مصر في تاريخها الحديث :
• خطر تهديد الدولة ، وهيبتها التي ترهلت ، وهويتها التي على المحك ، وجماعات ساخطة لا تعرف ماذا تريد ، ووصل الأمر إلى درجة يصعب على أي وطن قبولها !! وإذا كانت الثورة قد كشفت عن مسببات المرض ، فإنها في الوقت نفسه تركتها تظهر وتتبدى وتكاد تغطى الساحات ، فالحرية ليست واثقة من نفسها ، والكذب طالت حباله ، والوعود تكررت ، والعهود فاضت ، ولم يحدث شيء .. ولا يصح ولا ينفع أن تسير الأمور كما تسير الآن ، ثم يقال إننا بدأنا على طريق لا بد لنا أن نجري عليه إلى النهاية ، ولا سبيل إلى المراجعة !! هذا لا يصح ولا ينفع ، فنحن أمام حالة وطن يبحث عن فرصة لأن يبني مستقبله ، وما نراه حولنا يقلقنا ، ومن الحق أن يقلقنا إلى درجة الرعب من تداعياته .. والصورة بالأرقام مثيرة للازعاج :
• فالاقتصاد المصري حاليا يعاني مجموعة من المشاكل ، وهي مشاكل صعبة وخطرة ومتزايدة ، ولدينا مؤشرات بأرقام خطيرة ، والمؤشر الأول يتمثل في عجز كبير ومتزايد في الميزان التجاري بلغ 30،1 مليار دولار، والمؤشر الثاني عجز ميزان المدفوعات ، وهو يرصد استخدامات النقد الأجنبي في مصر، وهذا الميزان كان منذ ثلاث سنوات وقبل الثورة يحقق فائضا ولكنه اليوم انقلب إلى عجز، ويتزايد من سنة لأخرى ، حتى وصل حاليا إلى 21،2 مليار دولار، والمؤشر الثالث يتمثل في تناقص احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري ، وكان في يناير 2011 نحو 35 مليار دولار أصبح اليوم 15 مليار دولار ، وهذا هو الخط الأحمر الذي يجب أن لا ينقص عنه هذا الاحتياطي ، والمؤشر الرابع حجم البطالة وقد وصل إلى ما بين 17 إلى 20 مليون عاطل ، وأيضا زيادة حالات الإفلاس من واقع بيانات وزارة العدل ، وعدد حالات الإفلاس تزايد خلال العامين الماضيين بشكل مخيف ، والمؤشر السادس هو إغلاق نحو 1500 مصنع في آخر عامين ، والأخطر هو تخفيض التصنيف الائتماني لمصر، وهناك مؤسسات دولية مستقلة حتى لا يدعي أحد أنها "مسيّسة" وهي ثلاث مؤسسات عالمية قامت بتخفيض التصنيف الائتماني لمصر خمس مرات في آخر عامين ، وآخر تصنيف للبلاد كان " ـ B " بالإضافة إلى تزايد الدين الداخلي حتى وصل إلى 1،3 تريليون جنيه، ويبلغ الدين الخارجي حوالي 34 مليون دولار .. وحجم الضائع من التدفقات نتيجة قصور السياحة، وعزوف الاستثمارات عما كان متوقعا يصل تقديره إلى ما بين 20 ـ 25 مليار دولار "120 مليار جنيه" .. وإذا فالأزمة طاحنة، والجاهزون للمساعدة حتى هذه اللحظة في حالة غياب ، كل منهم لأسبابه :
• الولايات المتحدة الأمريكية لا تساعد لأنها في صدد أن تضغط لمزيد من التطويع .. والقادرون على المساعدة في العالم العربي مترددون ، ولكل منهم أسبابه ، لكن أخلصهم نية يقول نحن نريد أن نساعد الشعب المصري ، ولكن لا نريد أن نسد العجز في ميزانية جارية ، وإنما نريد أن نساعد أوضاعا دائمة ، ولا نساعد أوضاعا مؤقتة ، وإلا فمعنى ذلك أننا سوف نطالب بالمساعدة مرتين ، مرة لوضع مؤقت ، ومرة ثانية لوضع دائم يجيء ويطالب من جديد !!
وإذا أردنا البحث عن إجابة شافية، بشأن ما حدث ويحدث بعد الثورة، وكيف تشابكت وتعقدت الأمور إلى هذا الحال الذي نراه حولنا ويقلقنا ، فإن هذا يقتضي أولا العودة إلى ما جرى بعد الثورة مباشرة ، وسوء الفهم والتصرف والإدارة للمرحلة الانتقالية ، وأن الجميع تصرفوا بمقدار ما فهموا ، وركزوا جميعا على السلطة ، في حين أن الدولة نفسها كان يجب أن تكون موضع التركيز !! وأن هذا يقتضى ثانيا الإعتراف بأن هبوب رياح الخماسين على ربيع الثورة المصرية ، كان عاصفا من الداخل والخارج
، ومن عناصر وقوى وجدت في حالة السيولة والفوضى ، فرصة تمد إليها أصابعها ، تحاول أن تأخذ ، أو تحاول أن تبث سمومها ، أو تحاول أن تطوّع الأحداث لصالحها ، ومن تدخل القوى الكبرى التي وجدت في الربيع العربي الذي فاجأها ، فرصة نادرة للإستغلال ، وضخ ملايين الدولارات ، وحتى من دول الجوار المباشر وغير المباشر ، كان المتدخلون كثيرين ، وبملايين أخرى ، بعضها تم دسه في جيوب ناقليه !!
• ولا أعرف صراحة لماذا وفي معظم تجاربنا وثوراتنا ، تجيء النتائج ناقصة عن تحقيق المرجو منها ؟! وأبادر بالقول إن هذا ليس مبالغة في التشاؤم ، فقد يكون مسموحا ومقبولا التشاؤم سياسيا ، ولكن ليس تاريخيا ، فالتاريخ وهو المعلم الأول للسياسة ، يقول لنا الآن : أن الأمل حليف الأمم بقوة التاريخ ، والأمم قادرة باستمرار على المستقبل عندما ترى نفسها فيه ..