القاهرة 23 نوفمبر 2014 الساعة 03:23 م
القرد الراقص :
اجتمعتْ حيوانات الغابة لبحث بعض أمور حياتهم ، وكيفية التصدى للأعداء ، سواء من الحيوانات المُـفترسة أو من بعض البشر.. وبعد انتهاء المناقشة قام أحد القرود ووقف فى وسط الغابة ورح يرقص.. ولأنّ رقصه كان فيه جمال ورشاقه وإبداع.. لذلك فإنّ الحيوانات التى كانت تـُشاهده صفقوا له وأبدوا إعجابهم برقصه.
فى تلك اللحظة فإنّ الجمل شعر بأنه يُـمكن أنْ يرقص مثل القرد.. وقال لنفسه : أنا أعرف الرقص أحسن من القرد.. فوقف فى وسط الحيوانات وراح يرقص.. ولكنه لم يفعل أكثر من تقليد القرد.. فسمع قهقهات الحيوانات وهى تسخر منه.. وتضحك على حركاته المُرتبكة.. ثم طالبوه بالتوقف .. حتى لا ينال المزيد من السخرية.. ولكن الجمل لم يتوقف.. فإذا بباقى الحيوانات تنهال عليه ضربًا .
000
التعليق : كان إيسوب حريصًا على معالجة موضوع (التقليد الأعمى) وهو الموضوع الذى تناوله فى أكثر من حكاية ، أبطالها من الحيوانات أو من الطيور، ليُجرى عملية إسقاط واضحة على البشر، حيث أنّ كثيرين يقعون فى مخلب تلك العادة المذمومة ، فيكونون مثل الغراب الذى حاول تقليد صوت الكروان ، أو الجمل الذى حاول تقليد حركات الجمل ليكون راقصًا مثله ، فتكون النتيجة السخرية من أدائه ومن تقليده الأعمى ، وعند تطبيق تلك الحكاية على البشر، نجد أنّ كثيرين (خاصة من الوسط الفنى والإبداعى) لا يمتلكون الموهبة الحقيقية (سواء فى التمثيل أو فى الكتابة الإبداعية) ويدخلون تلك المجالات (إما بالواسطة أو بالنفوذ أو بسطوة المال) ولكن المُـتذوق الحقيقى للفن وللأدب) يلفظهم سريعًا مصحوبين بالسخرية ، كما فعلتْ الحيوانات وهى تسخر من الجمل الذى حاول أنْ يكون راقصًا مثل القرد.
000
الغزال ملك الغابة :
قد يبدو العنوان مفارقــًا لما تعارف عليه من أنّ ملك الغابة هو الأسد ، ولكن شاءتْ قريحة وموهبة إيسوب أنْ يسخر من هذا الوهم فكتب الحكاية التالية :
كان الأسد مريضًا.. ورقد فى كهفه بدون حركة.. ولا يستطيع الخروج للصيد.. واشتدّ به الجوع.. واشتاق للحم الغزال.. وكان الثعلب عنده لزيارته ومواساته فى محنة مرضه.. فقال له الأسد : أنت صديقى المُـفضل.. وأعرف عنك الذكاء والحيلة.. فعليكَ أنْ تستخدم لسانك الحلو.. وكلماتك المعسولة فى إغراء الغزال لزيارتى.. فأنا جائع وأشتاق للحم الغزال .
استجاب الثعلب لطلب الأسد.. وفتش فى الغابة حتى عثر على الغزال.. فحياه بمعسول الكلام.. وقال له : لكَ عندى أنباء طيبة.. أنت تعلم أنّ مليكنا الأسد مريض وعلى وشك الموت.. ولقد أخذتُ أفكر فى مصير الحيوانات بعد وفاته.. ومن الذى سيحكمنا بعد موت الأسد.. فقل لى يا غزال مَنْ يستحق أنْ يكون ملك الغابة ؟ هل ترضى أنْ يحكمنا الخنزير.. ذلك الحيوان الخالى من الأحاسيس ؟ أم الدب ذلك الكسول الغبى ؟ أم الفهد سيىء الطبع حاد المزاج ؟ أم النمر ذلك المُـتبجّح المدّعى ؟ لا أحد من هؤلاء يصلح للحكم.. ولا أجد سوى الغزال الذى يصلح ليكون ملك الغابة.. فالغزال أفضل الحيوانات فى الطبع والصفات التى تؤهله للعرش.. فطولك مناسب.. وتعيش سنوات طويله قبل أنْ يأتيك الموت.. وقرونك تـُخيف الأفاعى.. ولكل هذا فإنّ الأسد اختارك وعيّنك لتكون ملك الغابة.. فما مكافأتى وأنا أحمل لك تلك الأخبار الطيبة ؟ وما ردّك على رسالة الأسد ؟ قل لى بسرعة لأنى فى عجلة من أمرى.. إنّ الأسد يثق فى نصيحتى ويعتمد عليها.. وأنت لو استمعتَ إلى نصيحة ثعلب عجوز مثلى ، فعليكَ أنْ تسمع كلامى وتأتى معى لزيارة الأسد المريض وتسمع منه بنفسك أنه اختارك لتكون ملك الغابة بعد وفاته.
انتفخ الغزال بكلام الثعلب ورقص من شدة الفرح.. ثم ذهب معه إلى كهف الأسد.. وبمجرد دخوله انقضّ عليه الأسد وقضم أذنه.. ولكن الغزال تمكن من الفرار قبل أنْ يلتهمه.. فبدأ الأسد يئن ويتوجع ويتحسر على الفرصة التى ضاعتْ منه.. وتضاعف ألم الجوع.. فأخذ يرجو الثعلب أنْ يحاول مرة ثانية مع الغزال.. فقال له الثعلب : إنّ ما تطلبه منى يا مليكى صعبٌ تنفيذه.. لأنّ الغزال لن يقتنع هذه المرة بأى كلام ممكن أنْ أقوله له.. بعد الذى حدث.. وأنك كنت ستأكله.. فألحّ الأسد المريض على الثعلب كى يحاول مرة ثانية.. وقال له إنّ حيلك لا تنتهى.. فرح الثعلب بالمديح والثناء عليه.. وخرج يبحث عن الغزال.
بعد أنْ عثر عليه قال له الغزال : يا مكــّـار.. جئتَ لتـُوقع بى مرة ثانية.. ابتعد عنى.. وإلاّ سأطعنك بقرونى.. اذهب لتخدع غيرى من الحمقى الذين لا يعرفون حقيقتك فى الغدر.. ويصدقون أنّ ملك الغابة سيتنازل عن الحكم لأحد الحيوانات من غير فصيلة الأسود .
ولكن الثعلب لم ييأس فقال له : هل أنت جبان إلى هذه الدرجة ؟ وهل صدقتّ أنّ الأسد غدر بك وكان ينوى أكلك ؟ إنّ الأسد لم يكن ينوى قضم أذنك.. وإنما حدث هذا عن طريق الخطأ.. بسبب خوفك وهروبك السريع.. إنّ الأسد عندما أمسك بأذنك ، كان ينوى أنْ يهمس لك بآخر نصيحة وآخر تعليماته عن كيفية إدارة شئون المملكة.. ولكنك هربتَ مثل الجبناء.. وضيّعتَ على نفسك فرصة أنْ تكون ملك الغابة بعد أنْ يموت الأسد الذى يُحبك ولا يرى أفضل منك لتكون الملك.. وهو الآن غاضبٌ منك ويفكر فى أنْ يختار الذئب ليكون هو الملك.. وهذا لوحدث.. فسيكون أسوأ ملك يحكمنا.. تعال معى ولا تخش شيئــًا.. وأقسم لك بجميع أوراق الشجر وجميع ينابيع الماء.. أنّ الأسد لن يأكلك ولن يخدشك مجرد خدش.. وأنا لن أوافق ولن أتنازل عن أنْ تكون أنت – يا غزال يا جميل – ملك الغابة.
تأثر الغزال بكلام الثعلب فذهب معه إلى عرش الأسد.. وبمجرد أنْ دخلا انقضّ عليه الأسد.. أكل اللحم والعظم والأحشاء أولا.. وترك مخ الغزال للنهاية للتحلية.. وبينما كان الأسد منهمكــًا فى الأكل ، تقــّــدم الثعلب وأخذ مخ الغزال وأكله. وبعد أنْ انتهى الأسد من أكل لحم الغزال وعظامه.. بحث عن المخ فلم يجده.. وعندما سأل الثعلب ردّ عليه قائلا : هذا الغزال – بالذات يا مولاى – لم يكن لديه مخ . وقبل أنْ يتكلم الأسد ويُبدى دهشته أضاف الثعلب : لأنه لو كان لديه مخ ما وقع فى الفخ مرتيْن .
000
التعليق : تلك الحكاية بالغة الأهمية للأسباب التالية :
1- أنّ مرض الأسد (مع التجاوز عن المجاز فى حكاية المرض) ليس مُبررًا لأنْ يلتهم أى كائن حى كائنــًا حيـًا مثله ، وبالتالى – طالما أنّ الحكاية موجّهة للبشر- فيجب على الإنسان الاعتماد على نفسه فى البحث عن مصدر رزقه (رمز الطعام وأكل الغزال فى الحكاية)
2- المرض (حتى ولو كان حقيقيًا) لا يجوز الاستناد إليه والاعتماد عليه لتبرير الكسل والاعتداء على الآخرين .
3- إدانة الحيلة والغش والخداع (الادعاء بأنّ الأسد المريض رشـّح الغزال ليكون هو ملك الغابة) وبسبب تلك الحيلة الدنيئة وقع الغزال فى الخطأ القاتل .
4- إدانة أى إنسان يقوم بنفس الدور الذى قام به الثعلب ، لمجرد أنْ يحوز على رضا الأسـد ، كما يفعل كثيرون من البشر الذين يتقرّبون من رؤساء وملوك الدول ، ويُمارسون معهم أقصى درجات المُداهنة ، والاستعداد لتقديم أحط وأبشع أنواع (الخدمات) مقابل الحصول على مطامع دنيوية زائلة.
5- أما أهم رسالة فى حكاية إيسوب ، فهى دور الغزال ، الذى صدّق كلام الثعلب ، بأنّ الأسد سيُعينه ملكــًا على الغابة. وكان إيسوب من الذكاء عندما مهّـد لذلك ، بكلمات التملق التى تلفظ بها الثعلب فى محاولة إغراء (والأدق إغواء) الغزال بأنه سيكون (ملك الغابة) واستسلام الغزال لهذا المديح الرخيص ، لأنه يتنافى مع أبسط قواعد (قانون الغابة) ولأنّ الحكاية موجّهة للبشر، فعلى الإنسان (الحكيم) ألاّ ينخدع بكل كلمات الثناء والمديح فى كل القواميس ، وعليه أنْ يعى قدراته الخاصة (وهو الأمر الذى تجاهله الغزال فى الحكاية ، وترك إيسوب للقارىء أنْ يستخلص المغزى بنفسه) وأنّ كثيرين من البشر يقعون فيما وقع فيه الغزال عندما استسلم للمديح الرخيص وصدق أكذوبة أنه الأصلح لإدارة شئون مملكة الحيوانات.
6- كذلك ركــّز إيسوب على تكثيف آفة الحماقة التى تتحكم فى كثيرين من البشر، ورمز بها إلى ما فعله الغزال الذى لم يتعظ مما حدث له فى المرة الأولى ، عندما قضم الأسد أذنه ، ورغم ذلك ذهب إلى عرينه للمرة الثانية ، فكانت نهايته. وهذا ما يحدث مع كثيرين من البشر الذين لا يتعلمون من تجاربهم السابقة وبما فيها من أخطاء .
7- وبذلك جاءتْ المفاجأة (الدرامية) فى نهاية الحكاية ، وهى قول الثعلب للأسد أنّ الغزال لم يكن لديه (مخ) وبالتالى وقع فى (فخ) الخداع عندما تملــّـكه الغرور، وصدّق نفسه بأنه سيكون (ملك الغابة)
***