القاهرة 20 نوفمبر 2014 الساعة 02:31 م
خطب الشاب الفتاة التي يحبها ويتركها ليسافر للعمل وحين يعود يتزوجها ثم يتركها من جديد للسفر. وحين يعود يري ابنه منها قبل أن يسافر مجددا ليعود بعد سنوات قليلة ليري ابنه أو ابنته وقد كبر ويترك في أحشاء امرأته بذرة طفل جديد ثم يمضي راحلا.. هكذا فعل الأب سالتافيرو. وفعل زوجا ابنتيه "أورسا" و"موشكا" في فيلم "إنجلترا الصغيرة" في ختام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي رقم 36. الفيلم الذي عرض قبل ليلة من الختام الرسمي حظي بجمهور ضخم تابعه لمدة تقترب من ثلاث ساعات "160 دقيقة" في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية مؤكدا علي شغف المصريين بالفن الرفيع.. فهذا الفيلم اليوناني لمبدعه المخرج "بانتيس فولجاربس" أشبه بقصيدة مرئية كل لقطة فيها هي لوحة شاعرية تجمع بين الصورة والإضاءة والتكوين الجمالي الرائع وأيضا الأداء وسحر المكان الذي يضفي طابعا اسطوريا علي القصة بقدر سحر الدراما حين تتعلق بقصة تدور أحداثها عام 1930 لكنها وثيقة الصلة بالأحداث المعاصرة. سواء علي المستوي العام أو الخاص. مع الحفاظ الكامل علي خصوصية مجتمعها المحلي حيث جزيرة أندروس اليونانية. التي تعد جزءا من جزر سيكلاديس الكبري بكل ملامحها الطبيعية. البحر والصخور والكائنات البحرية وأيضا الطابع المعماري المميز. إنه المكان في واحد من أعلي صور تجسده وكأنه ساحة لدراما إغريقية ممتدة منذ بداية التاريخ حيث يستسلم سكان الجزيرة لسطوة البحر. ويعملون لديه في سفن الشحن والتفريغ. تاركين زوجاتهم وعائلاتهم وبيوتهم إلي أجل غير معروف. وربما إلي الأبد.. في هذا الجو تكبر "أورسا" وتحب "بيريوس" الشاب الوسيم. لكن الأم "مينا" ترفض ارتباطهما ولفقره وتسرع بتزويجها ممن يوفر لها حياة مادية مستقرة ترضخ الفتاة فقد كان أبوها غائبا لثلاثين عاما كاملة والأم تمارس القيادة وحدها. وبعد أعوام قليلة تفاجأ أورسا بأن من خطب شقيقتها الصغري موشكا هو نفس الحبيب السابق الذي سافر وكون نفسه عبر البحار وعاد مرتاحا.. تمضي الحياة بصعوبة شديدة علي "أورسا" والشاب الذي أصبح زوج الأخت حتي تشتعل الصراعات بين الدول الكبري وتنذر بحرب. وهنا يقرر الأب الضائع العودة لتعرف أنه كان مستقرا بالأرجنتين وله زوجة أخري وابن. وتندلع الحرب العالمية الثانية ويذهب الكثير من أبناء الجزيرة ضحايا أساطيل الدول الكبري. ويكشف بعضهم أن "بيريوس" لم يعد. وأنه ضحي من أجل زملائه وعماله وهو القبطان وتنفجر "أورسا" غضبا وألما في هذه اللحظة فقط ليواجه الجميع الحقائق المرة. تعرف "موشكا" بعلاقة الحب بين أختها وزوجها. وتتهم الابنتان "الأم" بالقسوة ويوافق الأب في مواجهة صعبة يخرج الجميع منها خاسرين.. فمن الذي قتل الحب والحياة لدي "أورسا" هل هو الأب الذي غاب طويلا أم "الأم" التي وجدت نفسها بلا سند أم الأخت التي احتفظت بالسر بداخلها وأخفته حتي عن شقيقتها.. وتنتهي أحداث الفيلم بمحاولات التأقلم مع الانهيار. وخاصة بعدما وقعت "أورسا" مريضة ولكنها انقذت شقيقتها من عذاب الإحساس بالعار والخيانة حين أكدت لها أن علاقتها انتهت بالزوج الراحل قبل أن يعرفها. تفاصيل قد لا تكون مهمة في هذا الجزء من الفيلم لكنها ضرورية لوصول الدراما إلي مرحلة تجاوز الأزمة بين شقيقتين كانتا وحيدتين وعادتا كذلك بعد أن رحل زوج الكبري وأخذ معه أولاده للعمل في أمريكا. بينما أصبحت الصغري أرملة. إنها دراما تصل أحيانا إلي درجة عالية من الإغراق في القتامة. لكن ما يخفف منها هو شاعرية الصورة والإضاءة واللون والموسيقي وجماليات المكان التي تكاد تكون البطل الأولي للأحداث برغم براعة الأداء لدي أبطال الفيلم وعلي رأسهم بيتلوبي تسيلكا في دور "أورسا" الشقيقة الكبري و"سوفيا كوكالي" الصغري وأنايسا بابا دوبلو في دور الأم المتحكمة. والتي تدرك حين تتأمل القصة بدون هذه الملامح الجغرافية والاسطورية أنها هذا النموذج للأم الوحيدة التي هرب منها الزوج للعمل بعيدا موجودة في كل زمان ومكان.. وفي أزمنة البحار وفي أزمنة البترول أيضا خصوصا الأزمة التي ذهب فيها مئات الألوف من المصريين للعمل في الخليج وتركوا بيوتهم وزوجاتهم.. لكن السينما المصرية لم تصنع فيلما مثل هذا الفيلم الرائع الذي يمثل اليونان في مسابقة "الأوسكار" الأمريكية في بداية العام القادم.. والذي كان خير ختام للمهرجان بكل ما قدمه من أعمال سينمائية شديدة التنوع. والاختلاف والتعبير عن الأنواع السينمائية والمدارس الفنية.. إنه مهرجان استعادة الوجه الثقافي لمصر وليس السياسي. فمصر الثقافة أسبق وأكثر رسوخا وقيمة. مهرجان يحتفي بالأفلام المهمة والجيدة ويقدم التسجيلي والقصير بجانب الروائي ويحتفي بالبحث حول السينما. وينشر الكتب وبإعادة الاعتبار لجمهور عريض من محبي الثقافة السينمائية في مصر ملأ القاعات حتي اليوم الأخير. يوم الختام الذي رأيت فيه فيلم "تمبوكتو" الموريتاني إخراج عبدالرحمن سيساكو ظهر الثلاثاء في المسرح الصغير في قاعة ممتلئة وفيلم عن الصحراء الموريتانية وكيف نصب البعض من أنفسهم حكاما علي غيرهم يقتلونهم ويجلدونهم وباسم الشريعة غير عابئين بصرخات الأتقياء منهم والذين يرفضون هذه الأفعال التي يرتكبونها مدعين أنها باسم الإسلام.. والفيلم حصل علي جائزة مهرجان أبوظبي الأخير ويستحق عروضا خاصة له أو عامة بعد المهرجان.
|