القاهرة 31 اكتوبر 2014 الساعة 04:46 م
«كان في اختيار ادموند ويلسون هؤلاء الأدباء بالذات، دليل إلى احساسه الصائب بحقيقة ما كان يدور في عالم الأدب الإبداعي أيامئذ. فلئن كان أدب الثلث الأول من هذا القرن (ويعني القرن العشرين)، امتداداً أو نهاية منطقية للرمزية التي سادت في آخر القرن الذي سبقه، كما يبرهن المؤلف، فإن الكثير من العوامل الفاعلة فيه والتي يحللها الناقد بحذق ودراية، بقي فاعلاً في أدب العصر الحديث، أدب ما بعد الثلاثينات الذي لن يتسنى لنا فهمه على حقيقته إلا باستيعاب الفترة التي يتفحصها هذا الكتاب. وهذا بالضبط ما يجعلنا نعتبر «قلعة آكسل» من أعمال النقد الباقية والتي لا تقل شأناً اليوم عما كانت عليه عند ظهورها الأول. فإدموند ويلسون بمعرفته الموسوعية ومنطقه الديالكتيكي، يرى كيف تتوازن التيارات وتستمر أو تتضادّ، في خلق المناخ الأدبي. وهذا المناخ يتمثل بأعلام يستقون أصالتهم من ينابيع النفس الداخلية، ولكنها ينابيع تسترفد بالضرورة أعماقاً سابقة أو مشتركة، وتصبح هذه الأصالة في ما بعد مؤشراً الى اصالات جديدة تنتظر من يحققها». اذا كنا رأينا هنا ضرورة أن نطيل في الاستشهاد بهذه الفقرات التي تقدم لكتاب «قلعة آكسل» للناقد الكبير إدموند ويلسون، فما هذا إلا لأن كاتبها مترجم الكتاب الى العربية، هو الناقد الكبير بدوره جبرا ابراهيم جبرا. وفي يقيننا أن مجرد أن يختار جبرا هذا الكتاب، لإنفاق أشهر من عمره في ترجمته، وبلغته الرائعة وفهمه الدقيق لتفاصيل التفاصيل، يكشف عن القيمة الكبرى لـ «قلعة اكسل» في مجال النقد، وابتكار أسس جديدة للنقد في القرن العشرين.
> لكن جبرا ابراهيم جبرا، لم يكن الأول ولا الوحيد الذي اكتشف القيمة النظرية والتطبيقية لهذا الكتاب. اذ ان دور «قلعة آكسل» الحاسم في مسيرة الفكر النقدي الأدبي وعلى الأقل منذ صدوره خلال النصف الأول من القرن العشرين، بات من الأمور المسلَّم بها. وويلسون نفسه عرّف كتابه الذي أصدره للمرة الأولى عام 1931، بأنه «دراسة في الأدب التخييلي كما ظهر بين أعوام 1870 و 1930». أما كلمة «آكسل» في العنوان فتحيل الى مسرحية «آكسل» للكاتب الفرنسي فيلييه دي ليل آدام، التي رأى فيها ويلسون، كما يقول في المقطع الأخير من آخر فصول الكتاب (وهو فصل مخصص للمقارنة بين آكسل ورامبو)، نوعاً من الخلاصة للنزعات (الرمزية خصوصاً) التي شاء أن يدرسها في هذا النص. هذه النزعات التي يقول عن أصحابها (لا سيما منهم ييتس وفاليري وإليوت وبروست وجويس) انهم «افلحوا في خلق ثورة في الأدب توازي الثورة التي تحققت في العلم والفلسفة: لقد انطلقوا من إسار الروتين الآلي القديم، وهشّموا المادة القديمة، وكشفوا للخيال عن مرونة وحرية جديدتين. ومع اننا نحس فيهم بأشياء تحتضر كتقاليد الأدب الرفيع التي أنشأتها ثقافة عصر النهضة مثلاً، اذ أجبر هذا النوع من الأدب على المزيد من التخصص وعلى المزيد من الانكفاء على أعماق الذات، حين جعلت الحياة الاصطناعية والتربية الديموقراطية تتصاعدان في الضغط عليه، فإنهم على رغم ذلك يهدمون جدران الحاضر وينبهوننا الى ما ينتظرنا من أمل وفرح في الامكانات المجهولة، التي لم تجرب بعد، الكامنة في الفكر والفن الإنسانيين».
> إذاً، وكما هو واضح، يتألف كتاب «قلعة آكسل» من فصول تناول فيها ويلسون، تباعاً أدب الشعراء والكتّاب الذين رأى أنهم يجتمعون لتحقيق الثورة «الرمزية» التي يتحدث عنها. واللافت أن هؤلاء الكتّاب لم يكونوا حين كتب عنهم ويلسون دراسته هذه، قد صاروا جزءاً من التاريخ. فمعظمهم كان لا يزال حياً، بل إن بعضهم كان لا يزال في أول مراحل انتاجه الحقيقي، ما يعني أنه كان قابلاً، بعد، لأن يتغير ويتطور. لكن ويلسون آثر التقاطهم جميعاً عند تلك النقطة من حياتهم، لأنه رأى - وبصرف النظر عن امكانات تحولاتهم المقبلة - أن في إمكانه من خلال دراستهم أن يدرس العصر ومزاجه، ومفهوم الحداثة وارتباطه خصوصاً بالرمزية. والى هذا يكشف الكتاب في مجمله فكرة ويلسون نفسه عن النقد باعتباره «تاريخاً للأفكار والمخيلة الإنسانية، ضمن اطار الشروط التي تعطي هذا كله أشكاله». وحين يحلل ويلسون نصوص الأدباء المختارين يهتم خصوصاً بمحتوى الروايات والقصائد في استعانتها بشكل أو بآخر من الأشكال التي تنضوي تحت لواء الرمزية. وبالنسبة اليه كان هذا هو الخط الذي يجمع بين هؤلاء الأدباء، ويمكّن بالتالي من فهم أدب بدايات القرن العشرين برمته، هذا الأدب الذي يرى ويلسون أن انجازاته الأساسية انما كانت امتداداً للنزعة الرمزية ولالتقاء هذه النزعة بالنزعة الطبيعية أو صدامها معها. وهنا سيكون من المفيد أن نشير الى ان ويلسون الذي كان من كبار المعجبين بإدغار آلان بو، كان يعتبر هذا الأخير أول الرمزيين. لكنه - أي ويلسون - كان يرى في الوقت نفسه أن الزمن الذي كان فيه النزاع قائماً بين الرمزية والطبيعية قد ولّى. على اعتبار ان الرمزية تطورت نحو عقلانية كانت تنقصها، كما ان الطبيعية ارتدت مسوحَ شاعريةٍ جديدة. وهذا التلاقي المفترض كان هو ما شجّع ويلسون على أن يكشف عن نزعته الحقيقية، اذ راح يركز اهتمامه أكثر وأكثر على ما يترتب على الأدب من مستتبعات اجتماعية وسياسية وبحث عن القيم الأخلاقية.
> انطلاقاً من هنا اذاً، نرى ويلسون، وبعدما درس كتابه بعمق تحليلي مدهش، يطلع بنتيجة قد تبدو غير متوقعة مع انها منطقية مهّد لها في كل الدراسات، حين يقول: «... ولذلك فإنني أعتقد بأنه قد دنا الوقت الذي سنرى فيه أن هؤلاء الكتّاب الذين كانت لهم السيادة، أو معظمها في عالم الأدب في العقد الواقع بين 1920 و 1930، على استمرار إعجابنا بهم كأساتذة كبار، لن يلعبوا دور الدليل والناصح لنا لمدة أطول. فعالم «آكسل» عالم الخيال الخاص المقيم في عزلة عن حياة المجتمع قد استُنفد واستُقصي، في ما يبدو، لأبعد ما يمكن في الوقت الحاضر. هل ثمة من يستطيع أن يتصور استمرار هذا الأمر لمدى أبعد مما أدركه فاليري وبروست، ومن منا سيقنع بالسكن بعد اليوم، في زاوية من بيت مغلق النوافذ لأحد هؤلاء الكتّاب، مهما يكن مؤثثاً بأفضل ما لدى المرء، حيث نكتشف أيضاً أن المكان في حاجة الى التهوئة؟».
> هي في أعماقها إذاً، معركة سياسية واجتماعية، تلك التي يخوضها ادموند ويلسون من خلال هذا الكتاب، وهو الرجل الذي لم يتوقف يوماً عن خوض المعارك، لا سيما في مجال النقد الأدبي. والحقيقة أن ويلسون بعد أن أصدر هذا الكتاب الذي انفجر كالقنبلة في بحيرة النقد الأدبي الساكنة، واصل الكتابة في السياق نفسه ولكن على شكل مقالات نشرت في مجلة «فانيتي فير» الذي كان أحد أبرز محرريها، كما في «نيو ريبابلك» و «نيويوركر»، وعاد وجمع تلك الكتابات في كتاب أطلق عليه اسم «صدمة التعرف». وهذا الكتاب بدوره أحدث صدمة ايجابية في عالم الأدب ودراسته.
> عاش ادموند ويلسون بين 1895 و 1972، وهو ظل طوال أكثر من أربعين سنة سيداً في ميدانه يعتبر أحد أكبر رجالات الأدب في طول الولايات المتحدة وعرضها. ونعرف أن دراساته المطولة حول دوس باسوس وهمنغواي وفولكنر وسكوت فيتزجيرالد، اعتبرت ولا تزال تعتبر دائماً مرجعاً في دراسة هؤلاء. بل يرى البعض أنها ساهمت في شعبيتهم وفي تكثيف السجالات الجادة من حولهم. ومن نافل القول ان ليس في الإمكان إحصاء كل مؤلفات ويلسون في هذه العجالة، ذلك أن الكتب والدراسات التي كتبها على مدى عقود، كثيرة ومتنوعة. ولكن يمكن اختصار بعض أسلوبه في النقد التهكمي الذي اشتهر به، من خلال حكاية بسيطة: حين أصدرت آغاثا كريستي روايتها البوليسية الشهيرة «من قتل روجر اكرويد؟»، علق عليها بمقال لاذع عنوانه «تُرى من يهتم بمعرفة من قتل روجر اكرويد؟».