القاهرة 30 اكتوبر 2014 الساعة 11:50 م
في الرواية المتخيلة وفي الواقع المعاش..
نحن ذاهبون إلى العالم الذي لا نعرفه!
أكاد أصدق أن السمكة الذهبية المرسومة على الكأس أمامي الآن قد تحولت إلى حورية مدهشة تسبح بين مكعبات الثلج البلورية!
هل أفرك عيني؟!
المسرح الخرافي ناشطٌ فينا ليلاً نهاراً..
المسرح سيمياء سواء كان متخيلا ام واقعا منضبطا بخشبة وجمهور وممثل..
من دون هذا المسرح الذي تستخدم فيه آلاف الحيل السحرية، هل يمكننا تحمل فجاجة الواقع من حولنا؟
ما الفرق بين القاتل والقتيل في عبثية المشهد العربي اليوم؟!.. كيف سنمسرح واقعنا، ولماذا نكتب؟
لم يكن أبداً لمسرحية أن تضعَ طعاماً في معدة جائع. ما كان لكتابٍ أن يوقف انفجار حزام ناسف. ما كان لاغنية ان تمنع سقوط القنابل فوق الاطفال.. لكنه "الفن" يحمى أرواحنا من الابتذال.. ومن السقوط في سوءات الواقع.
المسرح رمز للواقع ولكنه ليس الواقع اليس كذلك؟
النقود ترمز الى المال وليست هي المال، ولكنا نحتفي بها اكثر من المال، بل لم نعد نعرف المال سوى بالنقود.. الأيام و السنين ترمز الى الزمن وليست هي الزمن، ولكن الزمن لم يعد يعرف الا لانه دقائق وساعات..
الفرائض والطقوس الدينية هي رموز ولكنها تحولت الى حقائق تحجب ما ترمز اليه، ثم صارت تملك روايتها وهويتها المستقلة عما ترمز اليه!
أن تملك شيئا يجسد الحرية يسعدك اكثر من الحرية... اليس كذلك؟
ما أصعب الإفلات من الراهن المعاش!.. المسرح يفعل ذلك!
أول من شق عصا الطاعة وأوقد ناره بعيدا مضارب القبيلة، وضع أُسّاً لنص جديد.. وآخر من جمع كل الصيد في جوف الفراء.. يعبّر عن أفول مرحلة بأسرها دون أن يدرك شكل القادم الجديد..
اشكالية (سيمياء) إعلامنا المعاصر أنه جبار يتخبط في متاهة البحث عن نقاط القوة خارج منطق العصر فينهك نفسه وينتهك حرمة الحرث والنسل..
إنها (خفة الكائن التي لا تحتمل) التي تجبر الجمل أن يلج في سم الخياط!
سواء توالت التغييرات الجذرية على مساحة الوطن العربي أو تلكأت أو تعثرت إلا أنها قطعت مع زمن ما قبل حريق بو عزيزي. نسخت من الثقافة العربية حكاية الدولة البوليسية، وسقطت عبادة الزعيم، ولم يعد مقبولا انتشار صور القائد الفذ عند كل بقالة وكشك ونافذة. . لم يعد المسرح والشعر والنثر والنشيد والأغاني والأبحاث والروايات معنية بالاصنام، ما عاد في النص الجديد مكان للزعيم المطلق. ولم يعد التمجيد المجاني أو الإلغاء المطلق مقبولا..
بطل التراجيديا القديمة كان محاطاً بهالة من نور. يكلل بالغار، يجسد المهابة والجلال. المسرح الجديد لا يحتمل البطولة المطلقة، ولا يبحث عن القائد الملهم، بل همه الاختلاف والاعتراف بتنوع الجماعات وخصوصية الافراد..
ثمة خيط رفيع دقيق متعرج مخاتل ومتغير يفصل بين المتضادات، تلك المتضادات التي تبدو متباعدة متنافرة متناقضة لكنها في الوقت ذاته متقاربة ومشتبكة لا يفصل بينها سوى خيط رفيع لا يراه الا الفنان فيكشف ما خفي على العابرين، ويفصل ما بدا مرتباط، ويربط ما يبدو منفصلاً!
نحن لا نعرف كيف تتجمع الأحزان الصغيرة في الروح، ولا نعرف كيف تحرضنا المسرات الصغيرة على اقتحام الحياة، ولا نعرف كيف تتضافر الافكار وتترسب الصور في وعينا لتصير نصاً قابلا للحياة.. ويصير نصنا هو روايتنا عن الحياة.
لقد تحول الصراع في عالم اليوم من صراع الايدلوجيات والارادات الى صراع مصالح تروج له روايات يبهرجها الاعلام ويحاول كل طرف أن يجعل روايته يقينا ولا يقين.. (غزو العراق استند الى رواية متخيلة.. اسرائيل كلها قامت على رواية روجها ورعاها الغرب الامبريالي.. )
عن ماذا نكتب عندما يملأ الزبد حياة الناس ووسائل الاعلام والمواعظ والدروس والمؤتمرات والندوات؟ نحن نكتب مسرحيات متخيلة لكنها تقول الحقيقة.. واولي الامر يقدمون اكاذيب ويدعون انها روايات حقيقة ومن قلب الحدث!
نحن نقدم المسرحية "الرمز" وندعي انها عمل تخييلي – غير حقيقي – وهم يروجون رواياتهم بالصوت والصورة مدعين النقل الحي والمباشر للحدث لكن السادة يكذبون ونحن الفنانون نقول الحقيقة.
الحياة لن تتوانى عن إقحامنا مرة بعد مرة، في جولة اثر جولة من جولات: الإثارة والتعود، اليقظة والكسل، الشك واليقين00
لما جاء طوفان نوح طهر الأرض من أوصابها.. فصار حكاية مقدسة. . وصار يقينا.. لكن البشر ما لبثوا أن تجبروا وبنوا في بابل برجاً من الغرور.. تهدم برجهم، فتبلبلت الألسنة! وتعددت الروايات.. وصار الناس يقتلون ويتقاتلون انتصارا لروايات اتخذوها يقينا!
شجرة معرفة الخير والشر احتطبت قبل أن تأتي أُكلها.. ولم يبق لنا الا الاحلام نصوغها حكايات عن الخير والحق والجمال تواسي شرور هذا العالم.. فثمة فراغ في هذا الكون لا يملؤه الا المسرح.
هذا؛ وما زال جلجامش يواسي جراحي بحكايته العظيمة.. فأحلم بالخلود، وأسعى لامتلاك قوى خارقة للانتصار على (الزمن- المسافة)!..
ما زلت أحلم بمسرحية لم تخطر على قلب بشر.