القاهرة 27 اكتوبر 2014 الساعة 02:28 م
كتب: حسام إبراهيم
بقدر ما باتت ظاهرة انتشار ممارسات السحر والشعوذة والدجل في المجتمع المصري تشكل
هما ثقافيا على "أرض المحروسة", فإنها ليست ظاهرة مصرية خالصة وإنما تشكل هما عالميا.
ونسبت صحف ومواقع عديدة على شبكة الأنترنت للمستشار مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك
قوله في مقابلة تلفزيونية أنه "بدأ في عملية فك سحر أسود معقود للنادي الأبيض ويمنعه
من الفوز", فيما جاء التصريح بعد ثلاث مباريات عجز فريق الزمالك عن الفوز فيها,
أو حتى تسجيل أي هدف.
وفي الآونة الأخيرة تصاعدت الظاهرة بصورة مثيرة للقلق, فيما أفادت دراسات منشورة للمركز
القومي للبحوث الاجتماعية أن عدد الدجالين المنتشرين في ربوع الريف المصري
يصل لنحو 300 ألف شخص يستنزفون من جيوب المواطنين المثقلين بالأوجاع ما يصل إلى 15
مليار جنيه سنويا.
وتعكس هذه الأرقام اعتقادا خاطئا بقدرة الدجالين على حل المشاكل, فيما تبين الدراسات
التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية أن من بين من يؤمنون بالقدرات الخاصة
لهؤلاء الدجالين عناصر تنتمي لما يمكن وصفه بالنخب مثل بعض الفنانين فضلا عن
الرياضيين.
وفي بطولة كأس العالم لكرة القدم الأخيرة كانت الأنباء تتوالى حول قيام بعض السحرة
البرازيليين, من بينهم الساحر "هيليو سيلمان", بممارسة "طقوس السحر الأسود" لجلب
القوة والحظ للاعبي السامبا البرازيليين وحتى يتسنى لهم هز شباك المنتخب الألماني
والوصول لنهائي كأس العالم.
وحسب تصريحات نسبت لهذا الساحر, فإنه كان يمارس طقوس السحر الأسود, أو ما يعرف بـ"الفودو"
طوال مباريات منتخب البرازيل في هذا المونديال, الذي لم يكن أداء اللاعبين
البرازيليين فيه على المستوى المعهود "لراقصي السامبا".
ولم يتردد هذا الساحر البرازيلي في كشف أسماء بعض اللاعبين الذين مارس طقوسه ضدهم,
ومن بينهم اللاعب الكولومبي جيمس رودريجيز الذي سجل الهدف الوحيد لفريقه في مباراته
بدور الثمانية مع البرازيل التي خرجت فائزة بهدفين.
وعلى حدود محفوفة بالألغاز تقع ما بين الحقيقة والأسطورة, وعلى إيقاع رقص مئات السحرة
فى الملاعب تردد السؤال "ما علاقة السحر بكرة القدم", فيما حاول البعض الإيحاء
خلافا للحقيقة بأن هذه الظاهرة أفريقية فحسب"!.. غير أن الظاهرة في حقيقتها عالمية,
وها هو الساحر البرازيلي هيليو سيلمان, على سبيل المثال, يكشف عن "سبل معاكسة"
لاعبي الفرق المنافسة للبرازيل في مونديال 2014, فيما كان قد استهدف على وجه الخصوص
في مباراة البرازيل مع منتخب ألمانيا اللاعبين الألمان توماس مولر ومات هاميلز
ومانويل نوير.
وفكرة السحر الأسود التي ارتبطت تاريخيا بأفريقيا والتطير من أوقات وظواهر بعينها,
لها ما يقابلها في الثقافة الغربية المولعة بالحديث عن "البيوت المسكونة", فيما
ينفق الإنسان في الغرب الكثير على المنجمين وتنتشر الصحف والمواقع الإلكترونية على
شبكة الإنترنت لقراءة الطالع وتفسير الأحلام.
وقد يبرهن ذلك على صحة مقولة أن العقل الخرافي قديم قدم الإنسان والتفكير الخرافي
هو أقدم أنماط التفكير, ورغم التطور الإنساني والثورة المعرفية بقى للخرافة أثرها
في حياة الإنسان المعاصر, فيما لاحظ الباحث المصري الدكتور وحيد عبد المجيد أن "الخرافة
ترتبط غالبا بالتكوين الشخصي أكثر منه بالتمايز الاجتماعي أو الانتماء إلى
فئة اجتماعية محددة".
ولا يخلو الأمر من "بدع", مثل استخدام كائنات غير إنسانية للتنبؤ بنتائج بطولات كأس
العالم, كما كان الحال مع "الأخطبوط بول" الذي وصف بعراف مونديال جنوب إفريقيا,
فيما ظهرت أسماء أخرى كالسلحفاة البحرية "بيج هيد", أو "الرأس الكبيرة", و"الباندا
ميمي", والفيل "نيللي"!
ولعل النظرة الغربية لأفريقيا التي مازالت تتسم بالغرائبية والعجائبية والتركيز على
كل ما هو مثير للدهشة والعجب قد انعكست إعلاميا في تقارير كادت أن تصور أن ظاهرة
السحر في كرة القدم هي ظاهرة أفريقية, فيما راحت بعض وسائل الإعلام الغربية تركز
على هذه الظاهرة في مونديال 2010 بجنوب إفريقيا.
وهكذا توالت حينئذ تقارير عن جماعة تطلق على نفسها اسم "منظمة لمعالجين التقليديين",
قامت بذبح ثور أمام ملعب "سوكر سيتى", فى جوهانسبرج, وهو الملعب الذي شهد حفل
افتتاح المونديال وختامه, فيما ذهبت هذه الجماعة إلى أن سبب إقدامها على هذا التصرف
هو "مباركة البطولة العالمية وتعريف الأسلاف بأن العالم يتوافد على جنوب إفريقيا".
وحسب هذه التقارير فإن نحو 300 من السحرة استدعوا أرواح الأسلاف والتمسوا منهم أن
تنعم جنوب أفريقيا بمونديال جيد, فيما يتفق أغلب النقاد الرياضيين على أن مسألة ممارسة
السحر في الملاعب هي مسألة متصلة بسياق يتضمن الرموز والمعتقدات والطقوس الروحية.
وواقع الحال أن كلمة "السحر" ذاتها لها مفاهيم متعددة ومعان قد تتضارب لتثير الالتباس,
ففي بلد مثل جنوب أفريقيا كان المستوطنون الغربيون يرمون المقاومين من السكان
الأصليين بتهمة السحر, وقام بعضهم بترويج قصص حول ما يسمى "السحر الأسود" ليكون
الهدف "شيطنة المقاومة", فإذا بالمقاومين للاستيطان الاحتلالي العنصري يتجولون
حسب هذه الصورة الذهنية المصنوعة إلى "سحرة أشرار".
غير أن السكان الأصليين لجنوب إفريقيا يستخدمون كلمة "ساحر" كصفة لأي شخص يوصف بأنه
يتمتع بقدرات خارقة للمعتاد وخارجة على الناموس المتعارف عليه, وقد لا يدرك بعض
هؤلاء "السحرة" أنهم يمتلكون هذه القدرات الخارقة, وهم ببساطة لم يتعلموا السحر.
وفى مقابل "الساحر الشرير", الذي ينظر له باعتباره مصدر أذى للآخرين عبر سبل خارقة
للطبيعة, فإن هناك "الساحر الطبيب", ويدل فى الثقافة الجنوب أفريقية على ذلك الشخص
الذي يتمتع بقدرات روحية مضادة للساحر الشرير.
وفى كرة القدم بات المسؤولون فى القارة السمراء أقل تسامحا حيال مسألة ممارسة السحر
فى الملاعب, وعمد الاتحاد الأفريقي لكرة القدم "الكاف" لاتخاذ إجراءات مشددة لمنع
السحرة من السفر مع الفرق المشاركة فى البطولات الأفريقية.
ويقول مسؤولون فى (الكاف) "إن الأيام التي كان يوجد فيها ما يسمى بالأطباء السحرة
داخل غرف مغلقة أثناء بطولات كأس الأمم الأفريقية قد ولت إلى غير رجعة", غير أن لفيفا
من المعنيين بقضايا الثقافات الأفريقية يؤكدون فى المقابل أن الأمر ليس بهذه
السهولة ولا يمكن القضاء على ظاهرة متجذرة فى الثقافة بجرة قلم.
وأبان نظام الفصل العنصري فى جنوب أفريقيا أدت الالتباسات وعدم القدرة على التمييز
بين السحرة الأشرار والسحرة الأطباء إلى صدور مرسوم فى عام 1957 يحظر ممارسات هاتين
الفئتين معا دون أن يلتفت لمدى عمق المسألة وارتباطها بالثقافات المحلية, أو
يفرق بين ما يعرف بالطب الروحي والعلاج الشعبي وبين السحر الأسود والأذى, ومن ثم
لم يكن هذا المرسوم الحكومي قادرا على تغيير الواقع.
ويقول ماسوزى سيميلان رئيس مجلس الرياضة والثقافة فى سوازيلاند "إن الاكتفاء بحظر
رسمي على ممارسات السحرة لن يكفى أبدا وسيكون نوعا من خداع النفس, مضيفا أن "التيايانجا",
وهو المسمى الأفريقي للمعالجين التقليديين, قضية ذات أبعاد رياضية وثقافية
معا".
ويوضح هذا المسئول الأفريقي رؤيته بقوله "إن اللاعبين على المستطيل الأخضر يشعرون
بأنهم أفضل حالا عندما يحظون بمباركة وحماية أرواح الأسلاف", بينما يذهب اموس بفومو,
وهو معالج تقليدي فى مابوتو عاصمة موزمبيق, إلى أن هناك العديد من الطرق التي
يمكن بها للمعالج التقليدي تقديم المساعدة المشروعة للاعبي كرة القدم, " فالأعشاب
على سبيل المثال تجعل أداء اللاعب أفضل, أما أرواح الأسلاف فتمنحه القوة والمؤازرة".
وفى الطقوس السحرية المعروفة "بالكيوسينيسيا", يقوم بفومو بتقديم العلاج للاعب كرة
القدم فى صورة مزيج يجمع بين الوصفات الطبية الشعبية والجلسات الروحانية, ويقول
إن " أرواح الأسلاف ترشد اللاعب وتجعله يبذل قصارى جهده فى الملعب.. إن الأسلاف
يغمرهم السرور عندما يطلب منهم شيء على النحو الصحيح وبالأسلوب اللائق وتقوم بإرشاد
والهام اللاعبين أثناء المباريات".
أما بونجانى مونجوميزيلو المدير الفنى لفريق "بلاك مامباس", الذي يقع مقره على مشارف
مدينة دوربان بجنوب إفريقيا, فيقول "إن العديد من مدربي كرة القدم لديهم مشاعر
مختلفة بشأن أرواح الأسلاف.. ونحن نستعين هنا بالمعالجين التقليديين والروحانيين
لمنح المزيد من القوة النفسية والعزيمة للاعبينا".
إلا أن المشكلة تكمن فى تحول أمور مقبولة ويمكن تفهمها كالطب الشعبي والعلاج التقليدي
والروحاني إلى ممارسات سحرية شريرة تعرف "بالسحر الأسود", كما حدث في المونديال
الأخير بالبرازيل حسب اعترافات الساحر هيليو سيلمان.
وفى عالم الساحرة المستديرة حول العالم تقوم بعض الفرق بذبح الماعز على الخطوط الخارجية
للملعب كقربان للأسلاف قبل المباريات ثم يعمد البعض لرش المنطقة التي سيدخل
منها الفريق المنافس بالدماء ومرارة الماعز مع إلقاء بعض التعاويذ والطلاسم السحرية,
فإذا بلاعبي الفريق المنافس يعتقدون أن منافسيهم سحروا لهم وقاموا بممارسات
سحر أسود قد تؤدى لكسر أرجلهم لإصابتهم بالعمى حتى لا يروا الكرة فى الملعب!.
لكن الهزيمة المهينة للبرازيل في عقر دارها خلال المونديال الأخير والتي ستبقى طويلا
في ذاكرة كرة القدم الشهيرة "بالساحرة المستديرة" رغم كل مزاعم السحرة البرازيليين
ومكائدهم والأعمال المعاكسة لمنتخب ألمانيا القاهر للسيلسياو انما تحمل في ثناياها
الإجابة على سؤال حول جدوى تلك الممارسات.
وبعيدا عن كرة القدم وخارج القارة السمراء كلها وبالتحديد فى الهند مزقت خمس سيدات
إربا إربا يوم 29 يوليو من عام 2002 بعد أن أكد سكان فى ولاية جالبايجورى, أنهن
ضالعات فى أعمال السحر, فيما كشفت تقديرات رسمية عن أن أكثر من 700 امرأة قتلن فى
شرق الهند بين عامي 2001 و2006 لاتهامات نسبت لهن بالتورط فى ممارسات السحر الأسود.
وفي مصر تفيد المعلومات المنشورة حول ممارسات السحر والدجل أن التعاويذ والأحجبة تدهن
بدماء خفافيش أو تكتب على لية خروف أو على رأس قرموط, أو ذيل قطة أو لوح عظمة
الكتف لأي ذبيحة, ويقبل على هذه الممارسات الكثير ممن يعانون من أمراض نفسية أو
أصيبوا بأوهام وهواجس.
وواقع الحال أن الإنسان المعاصر في زمن الإنترنت وثورة الاتصالات يبدو أحيانا وكأنه
لا يختلف كثيرا عن الإنسان في العصور القديمة عندما كان مهوسا بالأرواح الشريرة
ومقاومتها أو توظيفها لأغراضه.
وفي تصريحات لجريدة "الأهرام", أكد الدكتور السيد عبد المجيد أستاذ الصحة النفسية
ووكيل كلية التربية بجامعة دمياط أن ظاهرة السحر والشعوذة المدمرة استشرت في المجتمع
المصري في الآونة الأخيرة, مشيرا في هذا السياق لرغبة البعض في الحاق الأذى بالآخرين
وانتشار الفضائيات المتلفزة التي تروج لبضاعة السحر, فيما اقترح لعلاج هذه
الظاهرة تقوية النزعة الإيمانية لدى الناس.
وكان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد حذر مؤخرا من انتشار برامج جديدة للقنوات
الفضائية عن "العفاريت والجان", معتبرا أن مثل هذه الظاهرة تمثل "منحدرا خطيرا
في حياة المصريين وتفتح ألف باب للدجالين والمشعوذين الذين يتاجرون بأمراض الناس
وظروفهم المعيشية والإنسانية الصعبة".
وقال جويدة "إن إفلاس الفضائيات في الفكر والثقافة والسياسة لا ينبغي أن يحملها إلى
أبواب العفاريت لتكون حلا أو طريقا للنجومية الكاذبة, مؤكدا على أن هذه الظاهرة
جريمة في حق البسطاء من الناس وجريمة في حق مجتمع يريد أن يلحق بالعصر ويعيش زمانه".
ومع تحول أحاديث الجن والسحرة "لوليمة يومية على صفحات بعض الجرائد المصرية", تساءلت
الكاتبة والناقدة سناء صليحة "هل الشعوذة موروث أنساني, أم أن انتشارها مرهون
بتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية?".
وقالت صليحة "إنها عندما قرأت مسرحية "القط توم" للكاتبة البريطانية كاريل تشرشل,
التي تتناول ممارسات السحر والشعوذة انتابتها حالة من الذهول, موضحة أن الممارسات
التي كتبت عنها كاريل تشرشل تطابقت مع ما كان ينشر عن أساليب المشعوذين المصريين
لإخراج الجن من البيوت والممسوسين".
ولأنها ظاهرة عالمية ليست وليدة اليوم فقد عقد فى السابع من شهر سبتمبر عام 1998 مؤتمرا
فى "ثوهو ياندو" بجنوب أفريقيا حضره نحو 200 شخصية من المسؤولين وكبار ضباط
الشرطة لبحث سبل كبح جماح ممارسات السحرة التي تؤدى للموت وتثير ردود أفعال انتقامية,
وتحدث مسؤولون فى هذا المؤتمر بالأرقام عن مقتل 97 سيدة و46 رجلا اتهموا بممارسة
السحر الأسود وطاردتهم الجماهير الغاضبة حتى الموت.
وحسب أقاويل تقع على التخوم ما بين الحقيقة والخيال, فإن أغلب الأعمال الانتقامية
تحدث فى موسم الأمطار, حيث يتهم السحرة بتحويل صواعق السماء والبرق والرعد نحو الأشخاص
الراغبين فى تدميرهم, فيما لا يتردد هؤلاء السحرة فى الرد على الراغبين فى
الانتقام بأبشع الوسائل من باب الدفاع عن النفس, وفي المقابل قد يتهم البعض ظلما
بالسحر وقد يتعرض للقتل بسبب دوافع كيدية وعوامل سياسية أو حتى خلافات شخصية.
غريب هذا الإنسان, سواء في العصر الحجري, أو في العصر الرقمي! يريد أن يعرف ما سوف
يكون مع أنه من الأفضل ألا يعرف وأن تبقى المأساة نكتة ضاحكة ويتحول البكاء لغناء
يردده عندليب الليل الكظيم!.