القاهرة 23 اكتوبر 2014 الساعة 04:32 م
طرقت الباب أول مرة، وكنت قد خلفت ورائي الظلمة والبرد اللاسع والكلاب الضالة، طرقت مرة ثانية، ارتجفت، لو لم أجده سأرجع للبرد والظلمة، مرة ثالثة طرقت على الباب ذى الشراعة الزجاجية، ولما تبين لي طيف، سمعت من الداخل صوت أقدام خافته، اقترب الصوت حتى انفتح الباب، وطالعتني "عايدة" بوجه مجهد، ثم لما تبينتني تهلل وجهها فرحا، وكانت الساعة العاشرة في ليل أمشير.
قلت لها: مساء الخير. رحبت. سألتها: "محمد" موجود. وهنا قالت باستغراب وبسمة مكسورة: أدخل من الباب. نظرت حولها، فأدركت أنني مزعج للجيران.
- أدخل.
تخطيت العتبة. غمرني دفء المكان، ورأيت الكتب والمجلات وشعرت بصديقي الذي أود رؤيته.
قالت وهي ما تزال واقفة وكان في صوتها شجن: إذا لم يكن "محمد" موجوداً لا تدخل.. لا يدخل أحد.. لسنا أصدقاء إذن.
ثم علت نبرة الصوت: لا أحد يسأل عنا.. وحين تجئ تريد أن تمضى لأن "محمد" غير موجود.. ألا ينبغي أن يسأل الناس عن بعضهم.
فشلت أن أفهمها شيئا. اتجهت للباب وقالت بصوت هامس: تفضل: امش. وأردفت: وسأكون زعلانة جدا. قلت متلعثما: أنا.. في الحقيقة.. لأن الوقت متأخر.. و..
قالت: محمد سيرجع حالا.. اشرب الشاي على الأقل.
جلست في دفء الكرسي ذى القاعدة المنجدة بالقطن. وقلت لها: أين "ليلى"؟
قالت بهمس حان: ليلى.. حميتها وسرحت شعرها.. ونامت.
ثم ابتسمت ابتسامة واسعة أعادت للوجه شكله الأليف، نهضت واقفة وقالت:
أتشرب شاياً؟
أومأت برأسي. على الحائط لوحة زرقاء مكتوب فوقها. بخط كوفي سورة الإخلاص، على الجدار المقابل مفتاح فرعوني، وبعض المسامير، وسلك التلفزيون الذي يتوسط الصالة. حين وصلت "عايدة" للمطبخ استدارت ساهمة، وأشارت لى بأصبع نحيف: أتشرب الشاي بالنعناع أو القرنفل قلت لها: لا أحب الشاي بالنعناع أو القرنفل.. أهوى الشاي بمفرده.
على البلاط "موكيت" قديم، أعيد صبغ ألوانه بيد غير ماهرة، وعلى "الموكيت" أعداد من الكتب والمجلات والورق، جاء صوتها من الداخل: لماذا لا تدخلون عندنا؟ نحن نحبكم و "محمد" طيب. قلت لها: بالطبع.. ونحن أيضاً. ردت بسرعة؟ فلماذا تتركوننا؟
ثم واجهتني في الصالة وهي تتحدث بيديها الاثنين: لماذا يقطع الناس ما بينهم من صلات؟
وجرت وفتحت النافذة، قالت وهي لا تبص ناحيتي:
انظر لهذا العالم المظلم.
أحسست بالبرد. جلست على الكرسي المقابل لي.
تبدو مرهقة، مسحت جبهتها، وصمتت.
كانت ترتدي جلبابا ذا لون فاتح، فوقه معطف أسود قديم وواسع، وفي رجليها جورب أسود ثقيل النسيج وطويل، كانت بين لحظة وأخرى تضع يديها في جيبي المعطف ثم تخرجهما.
سألتني عن ابنتي وزوجتي. قلت لها: كل هذه الأوراق.. هل يكتب "محمد" قصة جديدة؟
ضحكت بدون التماع العينين القديم وهزت رأسها قائلة: إنني أذاكر.
اندهشت لأنها تعمل من زمن بعيد بشهادة عالية. حقا!! قالت: ماذا أفعل؟.. قل لي أنت.. وحدنا نعيش في هذا المكان الذي يقع بين الريف والطاحونة والقاهرة.. لا أحد يزورنا.. كنا زمان نزور الأصدقاء.. نفرح ونتناقش ونزعل ونعود نجري وراء "التاكسيات" نعود مرهقين فرحين فنأكل لقمة وننام بشبع.
تقدمت على حافة الكرسي: هل مطلوب أن نظل نزورهم نحن؟ "محمد" يخرج يوم الأحد لزملائه.. فقط.. هكذا.. لابد أن أذاكر.. أو.. أجن.. عن أذنك.
وقامت، دخلت المطبخ، التلفزيون مغلق، ولعب "ليلى" المكسرة والبسيطة تستولى على جزء كبير من الصالة، لاحظت الغسالة في مدخل المطبخ وفوقها ملابس كثيرة متسخة، وعلى الثلاجة مطفأة السجائر ومنبه.
تقدمت بالشاي. جلست. قالت بلهجة طيبة: حالما تشرب الشاي سيأتي "محمد".
قلت لها: على أي حال المذاكرة شيء جيد. قالت: أنا أهرب.. اتهموني بالضعف.. هل تتصور؟ لماذا؟ لأنهم يريدون طالبة الجامعة مثل الأم.
تصورت أن خيط الكلام ضاع مني- إذ كنت أتابع حركة عقارب المنبه- قلت: لا أفهم.
قالت: وأنا في الجامعة كان السجن بالنسبة لي مغامرة.. اكتشاف.. سياحة للثوريات.. ندوات.. كنت حتى لا أريد الخروج، وأحببت "فريدة" حتى "فريدة" كنت أتصور أنها لن تتركني أبدا، لم أعد أرها.. ولكنني في المرة الثانية كنت أما.. كان السجن بالنسبة لي موت، عذاب، "ليلى" هي التي سجنتني.. تركتها عند الجيران بعد القبض علي أنا ومحمد.. صغيرة جدا كانت.. هل تدرك؟ تساقط شعر رأسي ألماً.
كتمت "عايدة" البكاء.
رشفت من الشاي، كان الشاي بالقرنفل!، أنا لا أحب الشاي بالقرنفل. قلت لها: الشاي جميل. لكنها ردت: خرجت متعبة.. متعبة.
أمسكت كوب الشاي بين راحتي يديها، قالت بفرح: "ليلى" الآن وبعد الاستحمام نامت في هدوء قالت لي أحكى لي يا ماما عن الشجر والغزلان والورود.. حتى نامت.. تصور.. لا أحد يزورنا.. أنني أذاكر الآن.. أمضي كل وقتي في المذاكرة.. وعندما يأتي "محمد" يقضى كل وقته في القراءة والكتابة.. ما رأيك في الطفل الثاني؟
فوجئت، فشربت رشفة شاي، وقلت بعد أن خلعت نظارتي ومسحتها: الظروف هي التي تحدد مجيئه. سكت. ثم قلت: ألن يكون عبئا قالت: كيف.. لم أخبرك يا صاحبي.. فقط هذا سر لا تبح به.
وتابعت بهمس فرح: سنأخذ شقة فوق شقة ماما.. يقوم "محمد" ويساعدني في إعداد الفطور، نفتح "البلكونة" فترتمي الشمس في الأرجاء، أرضع الطفل، أحميه بالشمس، ثم أعد له رضعات بقية اليوم ويرتدي ملابسا كيفما اتفق على أن يكون في رجليه جورب "كورشيه" بفيونكة، وننزل.. أمر على ماما لأترك الطفل.. مجرد نزول السلم.. تصور.. أترك الطفل و "محمد" يأخذ "ليلى" ويجريان على السلم ويقولان لماما: صباح الخير يا نينا ويهبطان السلم.. وأنا أوصى ماما على الطفل وأقبله وأجرى وأنط على السلم، ونمشي معا في شوارع بها بعض الشجر.
نظرت لي في توجس: هل لك وجهة نظر أخرى؟
قلت بسرعة: لا.. ولكن محمد!
قالت: سيوافق.. حين تتبدل الظروف سيوافق.. هو طيب وسيحب أولاده.
قلت: أن الظروف ستكون مواتية فعلا وعليكما أن تنجبا عشرة أولاد.
قالت: نعم.. الشقة هنا رديئة جدا.. والشارع والأثاث.. سنشتري أثاثا جديدا.
سكتت.. ثم سألتني: هل لو تغيرت الشقة سيزورنا الأصدقاء.. ويكون لنا أصحاب؟
قلت لها: شكرا على الشاي.
قالت: ما رأيك في الشاي بالقرنفل؟ قلت: جميل.
ثم نهضت واقفا، تجاوزت الساعة الحادية عشر، على أن أمضي لأبحث عن مكان أنام فيه.
وقفت قائلة: لماذا تريد أن تمشي؟ سنتحدث قليلا.. كيف زوجتك.. لقد أحببتها..
لكننا لا نراكم في السنة مرة.
قلت لها: زورونا.. سلمى على "محمد"
مددت يدي بالسلام، سألتني بصوت خفيض: ألا تريد أن ترى "ليلى"؟
قلت بالطبع.. لكنها نائمة. قالت: تعال.. تعال ألق نظرة عليها، لابد أن تراها قبل أن..
أين ستبيت؟ قلت في أي مكان. قالت: خليك معنا. قلت في الصباح سأمر على "محمد"
قالت: لابد إذن أن تبص على "ليلى" قلت يا ليت قالت: تعال.
مشت بحذر، وأشارت لي بيديها أن أكف عن أي حركة أو صوت، دخلنا الحجرة المظلمة، أضاءت المصباح، تململت الصغيرة، قلت لها: لن أقبلها حتى لا تستيقظ، قالت بصوت خافت: انظر إلى رسوم "ليلى". الرسوم على الحائط مثبتة بالدبابيس ذات الرؤوس الملونة، أخذت تشير لي بأصبعها النحيف: هذا رسم لشمس: هذا أسد، وهذه نخلة، وضحكت بفرح وقالت: تصور.. كل الرسوم متشابهة الأسد كالشمس.
أطفأت النور وخرجنا، اتجهت إلى الباب، قلت لها: إلى اللقاء.. تحياتي لمحمد.
ردت: لو انتظرت قليلا لجاء. قلت سأراه فيما بعد.
أصبحت خارج الشقة. أمسكت "عايدة" الباب وقالت: مع السلامة. قلت: الله يسلمك.
واجهت البرد مرة أخرى، كان أشد وطأة، نزلت بحذر على درجات السلم المظلمة.
لم تقفل الباب. تعثرت كثيرا في النزول، وحين أصبحت على باب البيت سمعت الباب يغلق في الطابق الثالث، ارتجفت، والأزقة خالية تماما ومعتمة مضيت، وفي فمي طعم القرنفل.