القاهرة 23 اكتوبر 2014 الساعة 04:18 م
بالقرب من ميدان مصطفى كامل وشارع شريف وسط القاهرة ... أصيبت بحالة من الوجوم والحزن الغارق فى الغضب ..الدموع كسرت الأسوار الداخلية وفاضت من عينى شلالات على خدى ... قدماى لا تستطيعان حمل جسدى ... ركنت على سيارة تقف بجوار الرصيف لمراقبة المشهد .
أمتزج الأمس باليوم والغد .. اختلط الواقع بالخيال فى خلطة غرائبية يصعب فصل مكوناتها فى أحدث معامل التحليل والرصد .. تداخلت المشاهد..لايستطيع أجدع مونتير فى ترتيبها ويفشل " أحرف " سيناريست عن وصف المشاهد ، وتعجز أى كاميرا عن التصوير الداخلى لمشاعر وأحلام الواقفين ، ولابد أن يترك أمهرالمخرجين "اللوكشين" فارا بجلده ودماغه من هذه المشاهد .
طائر الموت يرفرف فى الأجواء ...
آلاف النعوش تسكن المنطقة فى مشهد مهيب..تتطاير بعضها فى الهواء والبعض الآخر تتشبث وتتشعلق بها الأيدى الخشنة لمحاولة منعها من الفكاك .. نعوش محمولة على الأعناق والبعض الآخر يرقد على الرصيف .. فى قلب الشارع وأمامهم يقف الآلاف من شباب مصر يتشاجرون على نصيبهم من النعوش وأولوية الفوز بها والسكن فيها للراحة من تعب اليأس والإحباط ...
طوابير .. خناقات .. زعيق .. صوت عالى .. آلاف من الشباب يتصارع للوصول إلى الشباك للحصول على تذكرة الموت !!
بالأمس وقف المسئولون بعنجهية غريبة يتمنعون فى دلال فى بيع تذاكر الموت ليظهر وكلاء عزرائيل .. السماسرة يظهرون ويخلقون السوق السوداء لتجارتهم.. السعر الرسمى 4200 جنيه لتذكرة الطائرة ...
جهة السفر أقصد الموت هى ليبيا ..
الحانوتى هو شركة الخطوط الليبية التى تستحوذ على الحق الحصرى فى الطيران إلى هناك ..
طائرات الموت يتناقص عددها رحلتين أو ثلاث أسبوعيا بدلا من أكثر من رحلة يوميا
لزبائن غالبيتهم من الصعيد يدفعون تحويشة العمر أو حصيلة بيع أثاث البيت و بعض الحيوانات أو بضعة قراريط للحجزولا يعرفون موعد السفر .
يخرج بعض المسئولين بالشركة صارخا فيهم وضاجرا من زحامهم وأسئلتهم : -
- اللى مش عاجبه يأخذ فلوسه !!
عندما تنقح الكرامة وتبرز عروقها فى أحد الموجودين قائلا :
- أنا عايز فلوسى وح اسافر برى واللى يحصل يحصل !!
ترن كلماته لتخترق رءوس الواقفين.. يتشجع واحد ويتبعه ثم يتبعهما العشرات..
هنا يشعر تجار الموت بشبح بوار تجارتهم فيتراجعون بقولهم :
- يا جماعة أعذرونا نحن ندبر طائرات إضافية كى تستوعب أعدادكم ..!!
.. ولا ينسون التلويح بأنهم الشركة الوحيدة التى تقدم لهم هذه الخدمة ..
ويبلع أهالينا الطعم ويبدأون التدافع مرة أخرى نحو الشباك مع طرق المحايلة المختلفة ...
وقفت على جانب الرصيف جاذبا أطراف الحديث مع مجموعة جاءت متأخرة وتستطلع المشهد ..
• قلت : إنتم إزاى بتفكروا تسافروا برجليكم للموت
? رد أحدهم رافعا رآية النصاحة : م إحنا ميتين هنا .. والحرب هناك فى مناطق مناطق
• قلت : وإنت عندك ضمانات من مين إن الحرب والعمليات المسلحة مش ح تيجى منطقتك ؟
? شعر بضعف منطقه قال : يابيه العمر واحد والرب واحد .
• قلت: لكن إعقلها وتوكل ، ولا ترموا بأنفسكم فى التهلكة .
? قال: إحنا إترمينا هنا فى التهلكة بدون ذنب .
? قلت: مفيش حد بيموت من الجوع هنا
? تدًخل آخر قائلا :إنت م جربتش إحساس إن المرأة أفضل منك عندما تعجز عن دفع مصاريف أولادك فى المدارس أو تشتري لهم لبس العيد أو م تقدرش تجيب لهم كيلو لحمة أو حتى تأكلهم عيش حاف !!
• قلت : ولما تسافر وتجيلهم فى نعش لما يكون الحظ مساعدك ، أو تموت هناك ولا أحد يعرف إن كنت مت ولا لأ أو حتى يعرف قبرك .
? يتدخل آخر : يابيه إحنا ميتين هنا ، بس الفرق إن هناك اللى هيموتنا مش مننا أم هنا اللى بيموتونا من دمنا ولحمنا
• قلت لشاب يقف فى صمت ويبدو من مظهره أنه نال حظا يسيرا من التعليم: وإنت رايح برضك تبحث عن عمل ؟
? رد : لا أنا كنت مشارك فى محل هناك وعايز أروح أجيب حقى .
• نظرت إلى أحد محلات الملابس الفخمة على الرصيف المقابل موجها كلامى له : تفتكر المحل ده بكام ؟
? رد باستهزاء من لا يعرف فحوى السؤال : بملايين
• قلت لو كان بتاعك وإنت جواه وشعرت إن العقار ينهار ح تخرج جرى ولا ح تنتظر لما تخرج البضاعة وتلم الفلوس .
? رد : لا طبعا ح أخرج فورا ..
قالها وأدرك فحوى السؤال ..
• قلت : الوضع فى ليبيا مثل هذا العقار .. والرصاص فى كل مكان والأغراب هناك أن أهل ليبيا أنفسهم ملهمش ثمن عند الجماعات المتصارعة التى لا جنسية لها ولا قلب !!
? يتدخل شاب آخر ظل صامتا ويتابع الحوار قائلا : عايزين الإعلام عندنا يشرح لنا حقيقة الوضع هناك
• قلت : ألا تتابع الفضائيات المصرية والعربية والعالمية والجرائد ونشرات الأخبار .. الحكاية مش عايزة شرح .
? قال : يا أستاذ إحنا عايزين نشعر أن المسئولين عندنا خايفين علينا
• قلت : بعيدا عن المسئولين مش كل واحد منكم وراه عيلة وأسرة وأصحاب .. هم دول مش كفاية .. الوطن محتاجلكم وإنتم السند للأهل ولينا .
? رد بسخرية : بلاش والنبى حكاية الوطن دى !!
• قلت: ليه ؟
? رد: هو الوطن فين وإحنا قاعدين بقالنا سنين من غير شغل وشايفين الحرامية بينهبوه حتى اللى بيدخل منهم السجن بيتحول السجن بقدرة قادرلفندق 5نجوم ،وبعدين يخرجوا براءة ويخرجونا لسانهم .. ياعم السجن بقى لنا والوطن سرقوه منا ومبقاش لينا حاجة فيه !!
• قلت سفركم ح يساعد اللصوص دول بالاستمتاع بسرقتهم ، أقصد بوطننا .
? تدخل آخر قائلا : يعنى إيه وطن يا أستاذ ؟
• قلت يعنى أرض وسما وعرض وذكريات وأهل وأحباب
? قال : بذمتك لو جتلك فرصة هجرة أو إقامة فى أمريكا أو أى دولة أوروبية مش ح تسافر وتأخذ أسرتك معاك وتخلع من جواك الوطن إياه ؟
• قلت : طب والأرض والأقارب والأصحاب ؟
? قال : أبقى صورهم فيديو وخدهم على سى دى وكلمهم على الإنترنت .. أما الذكريات متخافش محدش ح يجمركها منك ...
على فكره قالها متابع للحوار وظل صامتا : والشيخ البعيد سره باتع
• قلت : تقصد إيه ؟
? قال : لما تسافر هناك وتنجح أو حتى تكون نص نص وتيجى زيارة حيستقبلوك استقبال الفاتحين وح تبقى فرخة بكشك رغم أن هنا أحسن منك ألف مرة لكن يعانون من الإحباط ومن أعداء النجاح ..الوطن ياعم هواللى يحترمنى ويعاملنى مثل البنى آدمين !!
• قلت مباغتا : أمك حلوة وأبوك عمرالشريف ؟
? نط الشر من عيونه وفار الدم الصعيدى قائلا: قصدك إيه ؟
• قلت : أصل أمى مش حلوة وأبويا مش عمر الشريف بس هما أحسن وأجمل ما فى الكون عندى !
• هز رأسه .. أضفت ملاحقا أفكاره : الوطن عندى مثل أبى وأمى حتى لو كانوا وحشين، هما أجمل حاجة عندى وم أقدرش استبدلهما بحد ...والوطن كده م حدش يقدريخرجه منا ومحدش يقدر يخرجنا منه ..
تركتهم وكلماتهم صواريخ تعصف داخلى .. وعندما التفت إلى الوراء بعد تركهم بعدة خطوات وجدتهم يتسارعون فى العودة إلى الطوابير للبحث عن مكان فيها وسط الباحثين عن تذكرة للموت !!
yousrielsaid@gmail.com