القاهرة 22 اكتوبر 2014 الساعة 11:08 ص
كنت عائدًا وأنا غلام في الحادية عشرة ذات مساء ومر بجانبي أحد «القساوسة» يدق الأرض بعصاه الطويلة ويومها شعرت بخوفٍ غامض نتيجة التربية الخاطئة والفهم المغلوط لطبيعة الآخر.
سيطر عليّ طوال عمري شعور غامض مؤداه أن الدنيا يوم لك ويوم عليك، يوم يكون خيرًا في مجمله ويوم يكون شرًا في معظمه حتي كنت إذا تحددت لي مناسبة مهمة كامتحان أو مقابلة منتظرة فإنني أبدأ بحساب دورة الإيجاب والسلب لأستكشف نوعية ذلك اليوم الذي يقع فيه ذلك الحدث إن خيرًا أو شرًا، ولاشك أن ذلك تفكير غيبي واهم ولكنه يدل علي شيءٍ متأصل في أعماقي وهو أنني أري أن الحياة صعود وهبوط وأن الزمان متقلب وأن لا شيء يدوم، والواقع أنني احتفظت في داخلي برصيدٍ ضخم من الأفكار «الميتافيزيقية» التي تعبر عن ظواهر غيبية قد لا تخضع للمنطق أو الأسلوب العلمي الدقيق ولكنها تراكم لخبرات مترسبة في اللاوعي تجعلني أحيانًا أتخذ مواقف معينة منطلقًا من شعور غامض أو إحساس خفي قد لا أستطيع تفسيره بوضوح مع أنني مؤمن بأن هناك صلةٌ تلقائية بين «العقل» و»القلب» يمكن تلخيصها في كلمة (الوجدان) وهو ليس جزءًا ملموسًا من جسد الإنسان ولكنه ذلك الإحساس الغريزي الذي يسيطر علي المرء فيدفعه إلي حيث يريد، كما أن الفضول الدائم والحذر المستمر والصراحة الزائدة والانفعال اللحظي تبدو في مجملها مجموعة من التناقضات التي احتوتها شخصيتي، وعلي سبيل المثال فأنا شديد الانبهار بحكم أسرة «محمد علي» بما لها وما عليها وأيضًا أعتبر نفسي واحدًا من جيل «عبد الناصر» وثورة 23 يوليو» وتربطني بتلك الزعامة الضخمة عاطفة لن تنتهي، وأنظر إلي الرئيس الراحل «السادات» باعتباره زعيمًا قادرًا علي اتخاذ القرار الحاسم ولو بشكلٍ مفاجئ، ولقد ظللت طوال حكم الرئيس الأسبق «مبارك» أعيش حوارًا ذاتيًا مكتومًا خصوصًا أثناء سنوات عملي معه (85 ـ 1992) حيث اختلطت لديَّ علاقتي المباشرة به مع رؤيتي له كرئيسٍ للجمهورية في ذات الوقت، فكنت أحب الشخص ولكنني لم أكن شديد الاقتناع «بالرئيس»! وذلك بسبب إهدار الفرص وتجريف الكفاءات وغياب الرؤية، ومع ذلك لم أسمح لنفسي بعد رحيل حكمه بالتطاول عليه لأنه لا يستحق ذلك فقد كان ودودًا معي في بعض المواقف وظالمًا في بعضها الآخر وتلك هي طبيعة البشر لا تستقيم علي حال، إنني أقول ذلك الآن وأنا أتذكر السنوات الحالمة في عهد الرئيس «عبد الناصر» وكيف كان شغفنا به وحبنا له وحرصنا علي زعامته، أتذكر يوم وقوع «الانفصال» وانهيار «الجمهورية العربية المتحدة» أنني وقفت في «طابور الصباح» بالمدرسة وكنت في السنة الثانية الثانوية تخصص «علمي فيزياء» ورئيس اتحاد الطلاب فألقيت خطابًا ناريًا ألهب الحماس ضد الانفصاليين حتي أن «حسين وجيه أباظة» زميلي الجديد في السنة الأولي توهم أنني مدرس ولست طالبًا! ومازال يذكرني بكلمة رددتها في ذلك الخطاب الصباحي هي عبارة «هيهات»! وهو يضحك كلما قابلني حتي الآن بعد مرور أكثر من خمسين عامًا ويقول لي إنه ظنها عبارة سب موجهة لمجرمي الانفصال وليست عبارة عربية صحيحة! وكان «حسين» هو ابن محافظ «البحيرة» في ذلك الوقت صاحب البصمات الكبيرة علي ذلك الإقليم الواسع. ولقد تشكلت رؤيتي تجاه من حولي نتيجة لمجموعة من المخاوف النفسية والاحترازات الشخصية التي تعتمل في داخلي وقد أدي بعضها إلي ردود فعل عكسية أتت بعد ذلك بإيجابيات كبيرة في حياتي، فلقد كان لي زملاء أعزاء من الأشقاء «الأقباط» ومع ذلك كنت أخاف من شكل «قسيس الكنيسة» رغم أن ابنه كان زميل دراستي! وتلك خطيئة كبري وانعكاس لنقص في معرفة الأطفال من الدينين «الإسلامي» و»المسيحي» بطبيعة كل منهما والأرضية المشتركة بينهما، بل إنني أتذكر أنني كنت عائدًا وأنا غلام في الحادية عشرة ذات مساء ومر بجانبي أحد «القساوسة» يدق الأرض بعصاه الطويلة ويومها شعرت بخوفٍ غامض نتيجة التربية الخاطئة والفهم المغلوط لطبيعة الآخر، وقد تحولت هذه العقدة لديّ إلي دافع قوي في الاتجاه الآخر للتعرف علي الديانة «المسيحية» حتي اخترت جانبها السياسي في «مصر الحديثة» موضوعًا لأطروحتي في الدكتوراه من جامعة «لندن»، كما جعلني ذلك أتعاطف مع «الأقباط» في مشكلاتهم حتي وصل الأمر إلي صداقاتٍ قوية بالبابا الراحل «شنوده الثالث» وغيره من أحبار الكنيسة المصرية، وقد استخدم الرئيس الأسبق «مبارك» تلك الصلة بأن جعلني مبعوثه الشخصي إلي البابا في كل الأزمات سواء كنت في مؤسسة الرئاسة أو بعد تركها، ولعل الجميع يتذكرون أنني كنت وراء عودة البابا الراحل «شنوده الثالث» من عزلته الاختيارية بعد حادث «العمرانية» أواخر عام 2010 حيث زرته في الدير «بوادي النطرون» وجلست معه لعدة ساعات هو وكبار معاونيه حتي عاد البابا الراحل والتقي بالرئيس الأسبق قبل حادث كنيسة «القديسين» في «الإسكندرية» بأيامٍ قليلة، ومازالت صلتي بالبابا الحالي والأساقفة وكبار رجال الكنيسة ذات خصوصية دائمة واحترامٍ متبادل، أما موقفي من «الأزهر الشريف» فهو يعيدني إلي سنوات الطفولة ومحاولة حفظ «القرآن الكريم» للالتحاق «بالأزهر الشريف» مثل عمي الذي كان شيخًا لمعهد دمنهور الديني معروفًا بقوة الحجة وطلاقة اللسان، ولكن خالي الأكبر اعترض حينذاك وتصوّر أن لديَّ من النجابة ما يمكن أن يجعلني متفوقًا في علوم الدنيا وليس في علوم الدين وحدها، ولقد صادقت عددًا ضخمًا من كبار «رجال الدين» الإسلامي أذكر منهم الإمام الأكبر «جاد الحق علي جاد الحق» شيخ الأزهر الأسبق الذي أصر علي عقد قران ابنتي الكبري في منزلي رغم موقعه الديني الكبير، وزاملت الدكتور «محمود عاشور» وكيل الأزهر الأسبق في رحلة العمر منذ سنوات الشباب، واقتربت من الدكتور « محمود زقزوق» والإمامين «الطنطاوي» و»الطيب» مع علاقة وثيقة بالدكتور «علي جمعة» المفتي السابق وغيرهم من علماء الدين الإسلامي الكبار، وقد ربطتني صلة وثيقة بالشيخين «الشعراوي» و»الغزالي» واقتربت منهما في سنوات تألقهما، ولايزال «للأزهر الشريف» لديَّ مكانة ومهابة مع حرصٍ شديد علي علمائه المستنيرين، وهنا أتذكر الراحل الدكتور «محمود عزب» الذي غادر الدنيا فجأة بعد أن قدم خدمات جليلة لمسيرة التنوير في «الأزهر الشريف»، ولعلي أعتز بأن مجموعة كبيرة من زملائي في المدرسة الثانوية قد تبوأوا مواقع هامة في مناحي الحياة المختلفة، منهم «أحمد زويل» و»فاروق جويدة» و»محمد كامل عمرو» و»محمد العصار» وعشرات غيرهم ممن تفوقوا في مسيرة الحياة بطرقها المختلفة، ولعلي لا أتيه علي زملاء دراستي حين أقول إنني كنت «الأول» باستمرار حتي أن العالم الكبير «أحمد زويل» قد ذكر ذلك صراحةً في حديث تلفزيوني منذ سنوات قليلة، ومازلت أشعر باعتزاز خاص بمحافظة «البحيرة» التي ولدت وعشت سنوات طفولتي فيها ولا أنسي أنها المحافظة الواسعة التي قدمت «للأزهر الشريف» عددًا ضخمًا من علمائه، بدءًا من الشيخين «الدمنهوري» و»الخراشي» مرورًا بالإمام المجدد «محمد عبده» وصولاً إلي الإمام الشجاع «محمد شلتوت» وبين هؤلاء وأولئك زمرة ممن خدموا الإسلام في «مصر» وخارجها، كما أن الشيوخ «حمروش» و»عبد العزيز عيسي» و»محمد البهي» هم أيضًا من نبت تلك المحافظة التي أنجبت «توفيق الحكيم» و»نجيب محفوظ» و»علي الجارم» و»محمد عبد الحليم عبد الله» و»يوسف القعيد» وغيرهم عشرات ممن رصعوا سماء الفكر والعلم والأدب والفن، كذلك فإن مدينة «دمنهور» قد احتضنت الآباء الكبار للكنيسة القبطية في مراحل معينة من أعمارهم وأذكر منهم الأب «متي المسكين» والبابوات الثلاث «كيرلس السادس» و»شنودة الثالث» و»تواضروس الثاني»، وهي أيضًا المحافظة التي يقع علي مدخل عاصمتها ضريحٌ يهودي لمهاجرٍ مغربي هو «أبو حصيرة»! ولقد كان الرئيس الأسبق «مبارك» يداعبني أحيانًا قائلاً إنك قريب من المشير «أبو غزالة» بحكم انتمائكما لمحافظة «البحيرة» وذلك رغم أن الأصول التاريخية لعائلة «مبارك» تبدأ من «البحيرة» حيث انتقلت العائلة من زاوية «سيدي مبارك» بمنطقة «الخطاطبة» إلي «كفر المصيلحة «بالمنوفية» منذ عشرات السنين، إن المرء حين يتأمل حياته وينظر وراءه ويكتشف أخطاءه عليه أن يدرك أنه قد بلغ الشأن الذي هو عليه ـ أيًا كان وضعه ومستواه ـ من خلال مسيرةٍ كان له الخيار في معظمها ولكنه لم يكن مسيطرًا بالكامل عليها فهناك عامل آخر يسميه البعض «الحظ» ويطلق عليه البعض الآخر «القدر».. وتلك كلها علامات مضيئة علي طريق الحياة لأن كل شيءٍ فيها نسبي بينما المطلق الوحيد هو الموت، ولا أبدية لغير الله!