القاهرة 19 اكتوبر 2014 الساعة 02:37 م
" إن سوريا تعد الموطن الأزلي للسريان .. هذا البلد الغالي على قلبنا جميعاً، إن ما جرى على أرضه ويجري كل يوم من قتل وتدمير وتشريد يؤلمنا جداً، وقد كنا منذ بدء الأزمة في سورية من الداعين إلى الحوار والحل السلمي البعيد عن لغة السلاح والقتل، ولكن سرعان ما تحوَّل العنف إلى إرهاب لا يهدف إلا إلى ترويع المواطنين المتجذرين في أرضهم، مسلمين أو مسيحيين على حد سواء، ولا يمكن توصيفُ ما يجري في بعض المناطق السورية بأنه فتنةٌ طائفية، بل هي أعمال إجرامية ضدَّ الإنسانية مباشرة ، ونعلنها جهراً بأننا باقون، وكما كان لنا تاريخ مشترك مع إخوتنا المسلمين في سوريا، وكما امتزجَ الدم المسيحي والمسلم معاً في العهود السابقة ذوداً عن تراب هذا الوطن الغالي، هكذا سنشترك معاً أيضاً في وحدة المصير ووحدة المستقبل "
هذا ما قاله البطريرك الراحل " ماراغناطيوس زكا الاول عيواص " فى الدراسة التى تقع تحت عنوان "السريان والإسلام تاريخ مشترك"والتى يشرح من خلالها الوضع السياسي والديني، قبيل ظهور الإسلام، في المناطق التي نشأت فيها الكنيسة السريانية منذ فجر المسيحية، والأماكن التي نشأ فيها الإسلام وانتشر بعد حوالى ستمائة سنة، لنتوصل إلى معرفة أفضل للتاريخ المشترك بين الكنيسة السريانية والإسلام .
الآرامية السريانية
وأشارت الدراسة إلى أن السريان اليوم هم أعضاء كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسيّة، وكانت لغتهم الآرامية السريانية لغة سوريا القديمة التي تكلّمها السيد المسيح. وهي اللغة التي كانت مهيمنة على تلك المنطقة عند ظهور الإسلام، وإلى جانبها اللغة العربية التي كانت لغة القبائل العربية النازحة من الجزيرة العربية والمستقرة في إطاراتها العشائرية منذ أمد بعيد في المناطق الشرقية من سوريا والمناطق الغربية والشمالية من العراق. واستعملت تلك القبائل إلى جانب لغتها العربية اللغة السريانية في الطقس الكنسي، بحكم كونها جزءاً لا يتجزأ من كنيسة أنطاكية السريانية.
الجدال الديني العقائدي
وأوضح البطريرك ماراغناطيوس أن القرن السابع للميلاد جاء على كنيسة أنطاكية السريانية وهي تكافح بآذلة قصارى جهدها في الحفاظ على كيانها، وما ورثته من آبائها من تراث سرياني آرامي وعقائد مسيحية سمحة، تسلمتها من تلاميذ السيد المسيح الأطهار وآبائها الروحيين الأبرار وقد أنهكت قواها الاضطهادات العنيفة التي أثارها ضدها اليهود والممالك الرومانية والبيزنطية والفارسية منذ أجيال بحكم موقعها الجغرافي، فقدمت عدداً غفيراً من الشهداء عبر العصور، وهكذا تمرّس أبناؤها على تحمل المشقات في سبيل التمسك بالعقيدة الدينية. كما أن ظهور الآراء المتطرفة في قضايا الدين وتفاقم الجدال الديني العقائدي، كل ذلك صار دافعاً لهم إلى التعمق بدراسة علم اللاهوت، وحافزاً للعلماء إلى التتبع الفلسفي، فاقترن علم اللاهوت بالفلسفة التي أضحت سلاحاً لدحض المزاعم الباطلة وللدفاع عن صحة العقائد الدينية، وقد اشتهر السريان بمحبتهم العلم، حتى أنهم كانوا يؤسسون إلى جانب كل كنيسة مدرسة، ولما ازدهرت الرهبانية كانت الأديرة بمثابة كليات لدراسة العلوم اللاهوتية وغيرها.
انقسام الكنيسة السريانية
كان التنافر المذهبى بين المسيحيين قد بلغ أوجه هذا ما أكده البطريرك ماراغناطيوس فى دراسته معللاً السبب بأنه جاء نتيجة الشقاق الذي صدّع جوانب الكنيسة المسيحية عامة والكنيسة السريانية خاصة على أثر مجمع أفسس المسكوني الثالث المنعقد عام 431م، والذي حرم نسطور، فالذين أخذوا بزعم نسطور من السريان ولم يخضعوا لقرارات مجمع أفسس سمّوا نساطرة، فأثارت المملكة البيزنطية الاضطهاد ضدهم فهربوا إلى مناطق المملكة الفارسية في ما بين النهرين السفلى، وبهذا انقسمت الكنيسة السريانية إلى اثـنتين ، وعلى أثر هذا الانقسام تحمّل السريان الأرثوذكس الضيقات من المملكة الفارسية، ليس فقط لكونهم مسيحيين، بل أيضاً لكون وجود رئاستهم الروحية في أنطاكية عاصمة سوريا القديمة ضمن المنطقة الخاضعة للمملكة البيزنطية عدوّة المملكة الفارسية، فكانوا يتّهمون بولائهم لأعداء الفرس ، ومن هنا تحمل أتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، صنوف العذاب من نفي وسجن وقتل .
ومن جملة هذه الاضطهادات، الاضطهاد العنيف الذي أثاره يوسطينوس الأول على أثر جلوسه على عرش الإمبراطورية البيزنطية عام 518م ضد أتباع الكنائس السريانية والقبطية والأرمنية، فاضطر البطريرك السرياني الأرثوذكسي مار سويريوس الكبير إلى مغادرة كرسيه البطريركي في أنطاكية واللجوء إلى مصر حيث أقام زهاء عشرين سنة في دار مؤمن قبطي يدبّر الكنيسة بواسطة نوابه ورسائله.
ولمّا ورث يوسطينيان عمه يوسطينوس سنة 527م على عرش بيزنطية ومعه تيودورة زوجته ابنة قسيس منبج السرياني الأرثوذكسي في سورية، عطفت هذه على رجالات كنيستها السريانية المضطهدين المنفيين والمسجونين في القسطنطينية، ولكنها لم تقوَ على إيقاف الاضطهاد لأسباب سياسية وإدارية حيث اتّهم أتباع عقيدة المجمع الخلقيدوني زوجها بالتحيّز للمنفيين انصياعاً لرغبتها.
مار يعقوب البرادعى
إن موقف مار يعقوب البرادعى بوجه الظلم البيزنطي وطغيانه كان وما يزال موضع فخر الكنيسة السريانية حيث أشار البطريرك ماراغناطيوس إلى أن القديس ماريعقوب أنقذ سوريا من الاستعمار البيزنطي وثبّت أبناء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيستين القبطية والأرمنية على الإيمان الذي أقرّته المجامع المسكونية الثلاثة المنعقدة في نيقية عام 325، وقسطنطينية عام 381، وأفسس عام 431. ورسم آلاف الكهنة والشمامسة. وهكذا توطّدت أركان الكنيسة السريانية بفضل هذا المجاهد الرسولي العظيم، مما حدا بأعدائها أن ينعتوها بغضاً وعدواناً باسم اليعقوبية، وهي مع افتخارها بمار يعقوب البرادعي ـ تستنكر هذا النعت وتعتبره دخيلاً، لأن مار يعقوب لم يؤسسها، ولم تتسلم منه عقيدة جديدة أو مذهباً مستحدثاً، إنما هو أحد آبائها الروحيين الأبطال الذين ثبتوا أبناءها على إيمانهم القويم الذي تسلمته من تلاميذ السيد المسيح الأطهار والآباء الأبرار .
الفتح العربي الإسلامي
وذكر البطريرك ماراغناطيوس إن النزاعات الدينية في الكنيسة المسيحية وتبنّي السلطة البيزنطية حماية فئة خاصة، وإثارتها الاضطهادات العنيفة الغير إنسانية خلقت روح الكراهية والنفور في قلوب السريان تجاه السلطة البيزنطية، كما أن السلطة الفارسية كانت تضطهد المسيحيين عامة الذين في مملكتها من سريان غربيين وشرقيين، محاولة إخضاعهم إلى سياستها المجوسية التعسفية واعتناق دينها المجوسي ، ومن هنا استقبل السريان العرب المسلمين الفاتحين بفرح ،و وتمكنوا بمساعدة العرب المسلمين من المحافظة على عقيدتهم الدينية، وكرسيهم الرسولي الأنطاكي وكنائسهم وأديرتهم وتراثهم وطقوسهم الدينية السريانية.
وبعد أن حارب السريان جنباً إلى جنب مع العرب المسلمين مع المحافظة على نصرانيتهم فحرروا البلاد من المستعمرين، شاركوا في توطيد أركان الدولة الجديدة، ويشهد التاريخ بإنتاجهم الخلاق في جميع ميادين الفكر والحضارة ، فقد جاء في كتاب «عصر السريان الذهبي» ما يأتي: "احتظى السريان بالثـقة والاحترام عند الخلفاء الراشدين (632 ـ 661م) والخلفاء الأمويين (662 ـ 746م) والعباسيين (750 ـ 1258م). وأول من نال ثقتهم هو منصور بن يوحنا السرياني، الذي أصبح وزيراً للمالية في عهد الخلفاء الراشدين. أما ابنه سرجون وحفيده يوحنا المشهور بالقديس يوحنا الدمشقي (749م) فقد تولّيا ديوان الأعمال والجبايات في عهد الخلفاء الأمويين"
ومن هنا يتضح أن السريان كانت لهم مكانة مرموقة لدى الخلفاء الراشدين ثم الخلفاء الأمويين الذين استخدموا العديد من السريان في الدواوين، وابتدأت على عهدهم النهضة العلمية العربية، التي ساهم بها علماء السريان وكتّابهم، وترجموا علومهم وعلوم اليونان إلى العربية، ونالوا مراكز عالية في الإدارة، وشغلوا وظائف مرموقة.
اضطهاد المغول
وأوضح البطريرك ماراغناطيوس أن الكنيسة السريانية وسائر الكنائس المسيحية ضعفت بعدما سقطت بغداد بيد المغول سنة 1258م ، فنجد البروفسور بولفكان هاجه الألماني يقول في محاضرة له عن تاريخ السريان: «إن الكنيسة السريانية ضعفت كسائر الكنائس المسيحية في الشرق الأوسط في نهاية القرن الثالث عشر بعدما استولى المغول على تلك البلاد ،ولم يكونوا عادلين كالمسلمين العرب فقلّ عدد المسيحيين هناك من جرّاء ظلم القائد المغولي تيمورلنك (أو تيمور الأعرج) (1336ـ 1405م) الذي استولى على سوريا وبلاد ما بين النهرين، ودمر بغداد سنة 1393، وعادى المسيحية ، فاستشهد على يده أعداد غفيرة ولم يراع العهود التي أعطيت للمسيحيين من الرسول الكريم والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين لحمايتهم وصيانة حقوقهم، بل هدر دمهم، وهدم كنائسهم وأديرتهم، ومدارسهم، فضاع أغلب مخطوطاتها الثمينة، وهذا يعد خسارة فادحة للحضارة الإنسانية العالمية كافة ، وفي أوائل القرن الخامس عشر استولى العثمانيون على قسم كبير من آسيا الصغرى، وفي نصف القرن الخامس عشر سقطت المملكة البيزنطية بسقوط القسطنطينية بيد العثمانيين سنة 1453م.
ومن هذه الدراسة التاريخية يتضح أن سوريا التى استُعمرت في الماضي من الرومان والبيزنطيين والتتار، بمن فيهم هولاكو وتيمورلنك ثم من العثمانيين وغيرهم، وفي كل حقبة من حقب هذا الاستعمار كادت حضارتها أن تتلاشى ولغتها أن تُمحى، ولكن بتضامن شعبها وتعاونه جميعاً وبتوطيد دعائم الوحدة الوطنية استطاع الجميع أن يجعل من سوريا صخرة صلدة تحطّمت عليها كل تلك المحاولات الشرسة لطمس معالمها وتشويه تاريخه ، كما تمكن السريان من المحافظة على عقيدتهم الدينية، وكرسيهم الرسولي الأنطاكي وكنائسهم وأديرتهم وتراثهم و