القاهرة 28 سبتمبر 2014 الساعة 03:27 م
وجدت نفسي أمام السؤال العام الذي يطرح نفسه دائما : لماذا ظل عبد الناصر حاضرا دائما بعد الرحيل؟! ولماذا لم تغب صورته عن الوعي المجتمعي العربي، وعن وجدان أمته ؟! ولماذا تقف ذكراه أمامنا ـ في المولد وفي الرحيل ـ في كل وقت ومكان، تتحدى الغياب، وتتحدى حقيقة الموت، بعد أكثر من أربعين عاما ؟! ونفس السؤال وربما بنفس الصياغة، طرحه أمامي قبل خمس سنوات دبلوماسي غربي " إيطالي " ـ جورج ريبرتو ـ وعلى هامش حفل استقبال سفارة عربية .. قال : يبدو أن هذا الرجل يتحدى الموت بعد رحيله ؟! وقلت له معقبا : إن ما يجري في مصر وداخل منطقتنا ال
عربية، يعيد الحياة مجددا لما كان ينادي به، ويحذر منه، وأن صورته تفرض نفسها داخل الشارع العربي، لأنها مجرد تعبير عن أفكار ومبادئ الرجل، وكثيرون في مصر يجدون في صورته معنى للنزاهة والطهر وعشق الوطن والأمة .. وأومأ الرجل رأسه موافقا، أو ربما مجاملا لوجهة نظري ..
وبصرف النظر عن حقيقة رد فعل " جورج ريبرتو " فقد بقى الرجل الكبير، خاطرا يحوم حولنا حتى الآن، وكلما اشتدت أحوالنا ضيقا وعسرا، سياسيا واقتصاديا، وكلما ضاقت بنا أحوالنا الاجتماعية، وكلما رأينا ملامح التجاعيد تصيب وجه مصر، فقد كنا قبله في حال، وفي وجوده أصبحنا في حال، وبعد رحيله، هكذا نحن، واختلفت أمور الأمة إلى هذا الحد !! وإذا كان الرجل الكبير قد أعطى أمته يقينا متجددا بأنها موجودة، وأعطى لهذا اليقين المتجدد حركته التاريخية، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها وحول أرضها وفي العالم .. فإنه أعاد لمصرـ قبل أمتها ـ حيويتها وشبابها ودورها التاريخي، ولم يخضع لحظة واحدة للتدخلات الخارجية، وآمن بوطن حر مستقل، ووصل بمصر إلى مستويات من التنمية الاقتصادية والاجتماعية غير مسبوقة، وفي بلد كان متوسط الدخل القومي للفرد فيه حوالي 47 جنيها، وغالبية سكانه من "الحفاة" .. وترتب على ذلك خط معين في التنمية الشاملة، استطاع على سبيل المثال ما بين سنة 1956 / 1966 أن يعطي زيادة سنوية في الدخل بمعدل 6,7 % طبقا لتقرير البنك الدولي بتاريخ 5 / 1 / 1967 وهي نسبة لم يكن لها مثيل في العالم النامي كله ، وأمام هذه الزيادة ، كان مشهد التحولات الاجتماعية الضخمة التي عاشتها مصر في الستينيات، وترسم صورة لشعب يبني حياته من جديد ..
لماذا ظل حاضرا، ولماذا بقى خاطرا يحوم حولنا ؟! لأنه عاش بين البسطاء، وتواصل معهم، فأدرك أن ما ينقصهم هي الحياة ذاتها، فلم يهتم إلا بأن يعيدها إليهم ، لذلك عرفت مصر للمرة الأولى في تاريخها، حق أبنائها في التعليم المجان وعلى مستوى عال من التقدم أنجب المئات من علماء العالم البارزين، ومن فاروق الباز إلى أحمد زويل، ومن مجدي يعقوب إلى مصطفى السيد، ومن هاني عازر إلى زهدي فراج ، وغيرهم العشرات من أبرز العلماء على خريطة العالم، ويتفقون مع مقولة الدكتور أحمد زويل " تعلمت أحسن تعليم في مدارس وجامعات عبد الناصر وبالمجان " ..
ولم تعرف مصر قبله الحق في العلاج المجاني، ولم تعرف قبله هذا الكم الهائل من المستشفيات العامة التي بنتها الدولة، حتى ينال المواطن حقه في العلاج، وهذا الكم الهائل من الوحدات الصحية التي كانت تعالج البسطاء في القرى والريف وتصرف لهم الدواء .. لم تنشئ مصر من بعده مستشفى عاما واحدا، بل توسعت في المستشفيات الاستثمارية لمن يملك ثمن العلاج !! وأنشئ في عصره ـ 18 عاما ـ نحو ألف وخمسمائة مصنع، تأسست عليها أول قاعدة صناعية في المنطقة، وتحولت مصر إلى وطن يخطو خطوات واثقة نحو التحول إلى دولة صناعية، جنبا إلى جنب مع كوريا الجنوبية وغيرها، من دول تقدمت، وتخلفنا نحن بعد رحيل الرجل الكبير!!
بقى الرجل الكبير خاطرا يحوم حولنا، ونحن نستعيد حقيقة أن في عهده لم تعرف مصر تنظيمات ولا جماعات ارهابية تتاجر بالدين ، لأن عبد الناصر كان أكثر حاكم عربي ومسلم حريص على الإسلام، ونشر روح الدين الحنيف بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، لا وساطة ولا محسوبية، وسجلت بعثات نشر الإسلام في أفريقيا وآسيا في عهده أعلى نسب دخول في الدين الإسلامي في التاريخ، وهي نسب غير مسبوقة وغير ملحوقة في التاريخ حسب احصائيات مجلس الكنائس العالمي ..
والشاهد أن عبد الناصر كان حريصا على أساسيات التنشئة الدينية، فاتخذ خطوات تطبيقية لتأكيد هذا الحرص، وأصبحت مادة الدين لأول مرة في مصر مادة إجبارية في مختلف مراحل التعليم العام، وكانت تدرّس من قبل ولا يمتحن فيها الطلاب مما يجعلهم لا يهتمون بها .. ثم أنشأ عبد الناصر محطة إذاعة القرآن الكريم يذاع عبر برامجها علوم الإسلام، وسجل لأول مرة المصحف المرتل بأصوات كبار المقرئين، وبذلك حفظ القرآن الكريم مسموعا بعد أن حفظه سيدنا عثمان مقروء .. ثم أنشأ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ليؤدي دوره في خدمة الإسلام، وإحياء التراث الإسلامي ونشر الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل، وأقام مدينة البعوث الإسلامية تستقبل الطلبة الوافدين للأزهر، وتوفر لهم الإقامة والمعيشة مجانا، ومن مختلف أنحاء العالم، وخاصة من أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وفي عهده إرتفع عدد المساجد الرسمية والأهلية في مصر من 11 ألف مسجد إلى 21 ألف مسجد، أي أنه بنى خلال سنوات حكم عبد الناصر في مصر مساجد تساوي عدد المساجد التي بنيت في تاريخ مصر ..
وكان عبد الناصر حريصا على توحيد صفوف الأمة الإسلامية وسد الثغرات التي يحاول الآخرون إثارة الفتنة من خلالها بين السنة والشيعة .. ودعا في العام 1962 إلى مؤتمر علماء المسلمين .. ولأول مرة في تاريخ مصر يجتمع علماء المذاهب الثمانية " الحنفية ـ المالكية ـ الحنابلة ـ الشافعبة ـ الإمامية الأثني عشرية من إيران ـ والزيدية من اليمن ـ والأباضية من عمان ـ والظاهرية من الجزائر " .. وكانت رؤية جمال عبد الناصر في هذا الوقت المبكر هي أن تقدم الأمة مرهون بأن تعيد قراءة تراثها وتوحيد صفوفها، وقد نتج عن المؤتمر جهد فكري عظيم سجل في موسوعة ناصر للفقه الإسلامي، وتناول بحث كافة المسائل الفقهية وحكم المذاهب الثمانية فيها، بدأت من حرف ( أ ) ومازالت تصدر عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، تأكيدا بأن المذاهب ليست أديانا، بل هي فهم للدين ..
وهي ملامح لم يقترب منها كثيرون، وترسم صورة زعيم شديد التدين في حياته الخاصة، ويخشى الله في تصرفاته وسلوكياته رغم سلطان وإغراءات زعامة نافذة ومؤثرة اكتسحت بالرضا والقبول وأحيانا بالإذعان الساحة العربية ، وتمددت إلى أطراف العالم الثالث بأسره ، وكان الرجل إذا أراد هرولت إليه ملذات الدنيا وكنوز الأشقاء ، ولكنه كان زاهدا ومترفعا عن توافه الأمور وصغائرها ، محافظا على قيم وثوابت لا يعرفها إلا من يخشى الله .. وهذه لمسات من حقائق نضعها أمام التيارات التي تدعي حق الوكالة عن الإسلام والمسلمين من " الإسلامجية " وتجيد اللعب على مشاعر الناس باسم الدين !!
في ذكرى رحيل الرجل الكبير .. تسترجع الذاكرة دائما، كلمات فضيلة إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي، في رثاء الزعيم، فقد كانت كلمات الشيخ تقترب كثيرا من الوجه الآخر للرجل الكبير، ورؤيته الثاقبة لدور مصر الإسلامي ، ويقول الشعراوي : " لم يكن زعيما فحسب، وإنما كان أستاذ زعامة، ولم يكن ثائرا فحسب، وإنما كان معلم ثورة، ودارس مبادئ، وكانت عبقريته في غرس هذه المبادئ ، وما قدم للإسلام من شيوع وتثبيت وانتشار وإعلام، وعما صنعه في الأزهر الذي تطور به، ليتطور مع الحياة ، وليجعل منه بحق منارة الدين وحملة رسالة الله ."
كان رثاء رجل الدين، لرجل السياسة، تقديرا لما قدمه لوطنه ولأمته، في حقبة تاريخية هي من أخصب حقب التاريخ العربي الحديث، وحين كان دور مصر حاضرا وفاعلا ونافذا ..