القاهرة 19 اغسطس 2014 الساعة 12:05 م
انعقدت الندوة الثانية بين «الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير» و«مركز زايد العالمي للتنسيق والمتابعة» بأبو ظبى في يوليو 2003 تحت عنوان «العقلانية، جسر بين الشرق والغرب».
وهذا العنوان يشى بأن ثمة فاصلاً بين الشرق والغرب، كما يشى بأن العقلانية يمكن أن تكون جسراً بينهما. ومعنى ذلك أننا بحاجة إلى تأسيس عقلانية تسمح بأن تكون جسراً. ومع ذلك فثمة أسئلة لابد أن تثار: هل ثمة عقلانية واحدة أم عقلانيات متعددة؟ وإذا كان ثمة عقلانية واحدة فهل معنى ذلك أن ثمة حضارة واحدة؟ وإذا كان ثمة عقلانيات فهل معنى ذلك أن ثمة حضارات متعددة وليس حضارة واحدة؟ وإذا كانت الحضارة واحدة فلماذا تتعثر العقلانية في مكان دون آخر؟ وإذا كان ثمة حضارات متعددة فهل هي في صراع أم في حوار؟ وإذا كانت في حالة صراع فهل معنى ذلك أن العقلانية تنطوي على اللاعقلانية؟ وإذا كانت في حالة حوار فهل معنى ذلك أن العقلانية تخلو من التناقض، أي تخلو من اللاعقلانية؟ واللافت للانتباه هاهنا أن هذه الأسئلة مثارة والمناخ العالمي مضطرب بسبب ظاهرة الارهاب التي أصبحت ظاهرة كوكبية. وإذا كان عدو الإرهاب هو العقل فهل معنى ذلك أن العقلانية تراجعت كوكبياً. وإذا كان ذلك كذلك فما أسباب هذا التراجع؟ وهل معنى هذا التراجع إعادة النظر في مفهوم العقلانية أياَ كان؟
والذى دفعني إلى إثارة هذه الأسئلة هو أننى كنت مهموماً بمفهوم العقل منذ عام 1975 عندما قدمت بحثاً إلى المؤتمر الفلسفي الباكستاني السابع عشر الذى انعقد بلاهور، وكان عنوان بحثى «الأصالة والتحديث في العالم الثالث». فقد كان رأيي أن الفجوة الحضارية بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة مردوده إلى مرور الأولى بمرحلتين: سلطان العقل والتزام العقل بتغيير الواقع. مرحلة سلطان العقل كامنة في عصر الاصلاح الديني، والذى كان التنوير تتويجاً له. وتأسيساً على ذلك فإنه يمكن القول بأن غياب العقل يفضى إلى تجميد الوضع القائم، وهذا بدوره يفضى إلى سلطان الأسطورة، ومن ثم إلى سلطان المحرمات الثقافية وهما من سمات الوضع القائم في الدول المتخلفة. ومن هنا تكون الأصالة التي تعنى سلطان التراث هي التيار المهيمن بسبب عزلتها عن الحضارة الغربية لمدة ثلاثمائة عام وذلك بسبب الاستعمار. ولذلك عندما بزغت حركة التحرر الوطني فى أثناء الحرب العالمية الثانية كانت سياسة «التحرر من الاستعمار» تعنى في الوقت نفسه التحرر من الغرب. وترتب على ذلك بزوغ شعارين: «الاستعمار الثقافي» و«الغزو الثقافي». وأصبحا من المصطلحات السائدة. وترتب على ذلك اتجاه النخبة الأفروآسيوية إلى اكتشاف الثقافة القديمة بطرق شتى، سواء في إفريقيا أو في آسيا بما في ذلك العالم الإسلامي، وكان من نتيجة ذلك الاكتشاف التفرقة بين الفلسفة الغربية التي تستند إلى التفكير النقدي والمنطقي والفكر الإفريقي الذى يستند إلى التفكير الأسطوري الخالي من التفكير العقلاني. ومن هنا التفرقة بين فلاسفة الإغريق والحكماء الشعبيين لإفريقياعلى نحو ما كان يرى فيلسوف كينيا الراحل أوديراأوروكا. ففي كتابه المعنون «الفلسفة الحكيمة» (1991) يبحث عن المعاني الفلسفية الكامنة لدى الافريقيين القدامى، والذين كانوا أميين وكانت حياتهم متجذرة في الوسط الثقافي لإفريقيا القديمة، الأمر الذى لا يسمح بمولد سقراط الذى كان يثير السؤال ويسخر من جواب الآخرين أو بمولد ديكارت الذى أسهم في إخراج أوروبا من العصور الوسطى المظلمة. وما انتهى إليه أوروكا يتسق مع ما انتهى إليه مارتن برنال في كتابه المعنون «أثينا السوداء» ( 1987)، أي قبل صدور كتاب أوروكا بأربع سنوات، فقد أرتأى زيف القول بأن اليونان القديمة هي التي ابتدعت الديمقراطية والفلسفة والعلم، كما ارتأى أن سقراط كان إفريقياً هو وكليوباترا. وفى نفس الاتجاه سار مفكر آخر اسمه جورج جيمس إذ أصدر كتابا عنوانه «التراث المسروق أو الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة» (1992). والمفارقة هنا أن وزارة الثقافة دعت برنال إلى الاحتفاء بكتابه الذى تُرجم إلى اللغة العربية كما ترجمت أيضا كتاب جيمس.
والمفارقة هنا أنه إثر صدور هذين الكتابين صدر كتاب ثالث مؤلفته يهودية اسمها ماري لفكوفيتز وعنوانه «ليس من إفريقيا» (1996). فكرته المحورية أن المركزية الافريقية دون الأوروبية أصبحت مبرراً لتدريس الأسطورة على أنها تاريخ حي.
هذا عن حال إفريقيا فماذا عن حال آسيا؟
قيل عن اليابان إنها نموذج آسيوي للدول النامية، وقيل عن كتاب «العقل الياباني» لمحرره تشارل» مور أنه كتاب مشهور دولياً بسبب أن محرره مشهور دولياً باعتباره المبدع والقوة المحركة لمؤتمرات الفلاسفة من الشرق والغرب والتي تنعقد سنوياً في هونولولو لتدعيم فهم تراث الآخرين. وقال مور في بحثه المعنون «العقل الياباني الملغز» أن هذا العقل يرفض العقلانية بدعوى أنها لا ترى الأشياء على حقيقتها، ولهذا فإن الشرق متميز إلى حد بعيد عن الغرب المنطقي، ومن هنا فإن ذلك العقل لا يشمئز مما هو غامض ومما هو غير محدد.
يبقى بعد ذلك العالم الإسلامي، وما هو حادث فيه من قتل وتدمير. إنه محكوم بالأصولية الاسلامية من شمال إفريقيا حتى جنوب شرق آسيا والتي تدعو إلى نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يكون بديلاً عن النظامين الاشتراكي والرأسمالي، ويكون إحياء لزمن الخلافة الاسلامية. والنتيجة المنطقية لهذه الدعوة تقولب الدولة في أنماط اسلامية. وهكذا يكون المفهوم الغربي لفصل الدين عن السياسة غريباً عن الاسلام. فالسلطة في يد الله، ومن ثم فهي مطلقة، والحكام هم ممثلو هذه السلطة، ولا قيمة للشعب.
وتأسيساً على ذلك يمكن القول بأن ثمة فجوة ثقافية بين الغرب والشرق. وإذا كنا نريد عبور هذه الفجوة فمن اللازم إجراء حوار بين فلاسفة الشرق والغرب من أجل إنقاذ الحضارة الانسانية من أولئك الذين يقفون ضد العقل.