القاهرة 11 اغسطس 2014 الساعة 02:50 م
كتب - حسام ابراهيم:
تجيب دار الأوبراالمصرية هذا الصيف على " سؤال الفن والمجتمع" بقدر ماتبرهن على عدم
صحة مقولات ظالمةللمصريين تزعم ان سوادهم الأعظم لايتجاوب مع الذوق الفني الرفيع.
وتبدو فعالياتمهرجان الأوبرا الصيفي على المسرح المكشوف نموذجا دالا لامكانية تقديم
روائع الموسيقىوالغناء للشعب المصري بكل اطيافه وشرائحه والارتقاء بالذوق العام
للمجتمع ودحر ثقافةالقبح والتلوث السمعي-البصري فيما تتجلى صحة رهانات رئيسة
دار الأوبرا المصريةحول الأوبرا كمنارة ثقافية يلتف حولها كل المصريين .
وتشهد ليالي القاهرةفي هذا الصيف ابداعات مصرية في الموسيقى والغناء لأسماء مثل رشا
يحيي ورانيا يحييواميرة احمد والطفل الموهوب يحيي الهرميل ونسمة عبد العزيز ودينا
الوديدي فيما قدمالموسيقي المبدع الدكتور جمال سلامة مفاجآة سارة لعشاق الموسيقى
باطلالة شارك فيهاضمن هذه الفعاليات التي تشهد اقبالا ملحوظا وخاصة من الشباب.
ومن حسن الطالعان الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وهو المجلس الذي يشكل عقل وزارة
الثقافة ان لميكن العقل الثقافي لمصر ككل عرف باهتمامه البحثي بالعلاقة بين
الموسيقى والتاريخوتولى الاشراف على مشروع ثقافي عنوانه :"الموسيقى والذاكرة" وهو
مشروع يشارك به14 مؤرخا وموسيقيا ويمثل بحق "خروجا حميدا على النمط التقليدي
في دراسة التاريخبقدر ماينطلق برحابة التصورات الثقافية في رحاب غير تقليدية".
واذا كانت الموسيقىلغة الشعوب في العالم والتاريخ قصة هذه الشعوب فان فكرة اللقاء
بين الموسيقى والتاريختتجسد في كتاب "التاريخ والموسيقى" للدكتور محمد عفيفي الأمين
العام للمجلس الأعلىللثقافة واحد ابرز وانجب اساتذة التاريخ الذين انجبتهم
المؤسسة الأكاديميةالمصرية والمؤلفة الموسيقية الدكتورة نهلة مطر التي اشتركت معه
في تحرير هذا الكتابالذي يتضمن مجموعة دراسات شيقة لنخبة من الباحثين.
وفيما تبدي الدكتورةرانيا يحيي كنجمة من نجوم هذا الموسم لليالي المسرح الصيفي للأوبرا
اهتماما باعادةصياغة العلاقة بين الموسيقى والعالم والحلم كباحثة ومحققة الى
جانب كونها عازفةموسيقية فان الروائي الروسي العملاق ديستوفيسكي عمد في روايته
"نيتوشكانزفانوفا" لتوظيف علاقة "الداخل الانساني والأنغام" في هذا العمل الروائي
الابداعي حيث يتحول"الكمان" للذات الداخلية المرجوة وتتحول الآلات الموسيقية
لرموز واذا بلغةالأنغام هي اللغة الانسانية الأعمق.
فالموسيقى والتاريخينتميان كمجالين ثقافيين للنشاط الفكري الانساني ومن هنا يرصد
كتاب الدكتور محمدعفيفي والدكتورة نهلة مطر العلاقة بين الموسيقى كفن وكتابة التاريخ
والقضايا الاجتماعيةوالثقافية المتصلة بأثر الموسيقى في المجتمع المصري على
مدى القرنين الماضيينفيما يوضح الدكتور عفيفي ان الكتاب في اصله دراسة تنطلق من
مدخل التاريخ الاجتماعيللموسيقى في مصر.
فهو كتاب لايعنيبدراسة الموسيقى وتقنياتها وانما يهتم ويركز على المحيط او البيئة
الاجتماعية-الثقافيةالتي تتعايش معها الموسيقى بقدر مايبرز بصورة جدلية اهمية القضايا
الاجتماعية والثقافيةالمتعلقة بأثر الموسيقى في المجتمع.
والكتاب ثمرة لقاءثقافي مدهش بين التاريخ والموسيقى او بين المؤرخين والموسيقيين
ويتضمن صفحات ممتعةعن مرحلة مابعد الحملة الفرنسية في مصر والتناول الغربي للموسيقى
والتعبيرات الموسيقيةعن التكوينات الطبقية في المجتمع المصري ودراسة علمية عن
"فرقة حسبالله" التي ترجع جذورها لمحمد علي وصولا لظاهرة المطرب الشعبي احمد
عدوية كظاهرة منظواهر التاريخ الاجتماعي للموسيقى المصرية بقدر ماطانت الظاهرة متصلة
بما عرف بعصر الانفتاحالاقتصادي منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين.
وبسلاسة يحلق الكتابفي افاق جديدة بمعالجات غير تقليدية لقضايا تاريخية مثل لقاء
الموسيقى الشرقيةمع الموسيقى الغربية وانعكاسات هذا اللقاء والتواصل والتفاعل الثقافي
على اذواق المصريينناهيك عن الحداثة وتغير المجتمع المصري.
واذا كان الموسيقيالروسي الشهير فاليري جريجييف يوصف , بأنه صديق الرؤساء والاثرياء
ونموذج لارتباطالفنان بالسلطة فى كل العهود كما ينظر له باعتباره الفارس الذى
لايبزه اى فارساخر على الساحة العالمية فى حمل راية التراث الموسيقى الروسى فان
قصته تعبر بعمقعن علاقة الفن بالمجتمع.
عندما يقود هذاالموسيقار الذى جمع بين صداقة الرئيسين فلاديمير بوتين وديمترى ميدفيديف
الاوركسترا فانيده اليسرى ترفرف كما لو كانت تتلقى شحنات خفية فيما يمسك بيده
اليمنى عصا صغيرةللقيادة الاوركسترالية وسرعان ماينتفض جسده ويتطوح مع ايقاعاته
غير ان زميله عازفالكلارينت اندرو مارينريقول ان كيمياء الابداع ليس مصدرها
يد الموسيقار جريجييفوانما تعتمل فى عقله.
والموسيقار الروسيفاليرى جريجيف قائد اوركسترا لندن السيمفونية ارتبط بعلاقة صداقة
مع الزعيم الروسىفلاديمير بوتين منذ عام 1992 عندما كان مديرا فنيا لفرقة كيروف
المسرحية فى مدينةسان بطرسبورج وكان قد نال بالفعل شهرة عالمية كموسيقى له شأنه
فيما كان بوتينايامئذ لايزيد عن كونه النائب الأوللعمدة هذه المدينة وهو رجل اصلاحى
يدعى اناتولى سوبشاكوكلاهما له شغفه وولعه بسان بطرسبورج وكان بوتين بحكم
منصبه كنائب للعمدةيساند بقوة الفرقة المسرحية التى يقودها الفنان فاليرى جريجيف.
على النقيض منارتباط جريجييف بالمدينة وبالتحديد مدينة سان بطرسبورج فان الكاتب اللبنانى
حازم صاغية يرىان ام كلثوم القادمة من ريف مصر كانت على علاقة تضاد مع المدينة
تصل لحد الكراهيةوادانة القاهرة باختلاطها وتهتكها وخلاعتها يوم كانت العاصمة
المصرية فى مطالعالقرن الماضى تفتح ذراعيها لفنانين وفنانات اجانب يتركون بصماتهم
على الذوق المحلىالمصرى..لقد نمت ام كلثوم حسب قول حازم صاغية فى كتاب عن
كوكب الشرق بالضدمن المدينة وفى سياق من الصراع معها.
وفى بدايات غربتهاالطويلة بالقاهرة تعرضت ام كلثوم لما يتعرض له الريفيون البسطاء
المهاجرون الىالمدن على ايدى التجار والسماسرة والوسطاء فكان وكلاء الحفلات الغنائية
يسخرون منها ومنابيها ويبخسونهما حقهما وحين اشترت قطعة ارضها الأولى لم تستطع
ان تتملكها لأنالعقد كان مغشوشا فدفعت المال ولم تحصل على ملكية فى مقابله
لكنها امتلكت قلوبالمصريين والعرب ككل بعد ذلك وباتت رمزا من رموز العلاقة الوثيقة
بين الفن والسلطةبقدر ماانتصرت على "ثقافة الكباريه" التى سادت فى الفن لحظة
مجيئها من الريفللقاهرة.
اذا كان ريتشاردموريسون الناقد الفنى لجريدة التايمز اللندنية والمتخصص فى الموسيقى
الكلاسيكية يقولعن علاقة جريجيف وبوتين:"ربما لاتوجد علاقة وثيقة كهذه فى تاريخ
الموسيقى بين فنانوحاكم قوى باستثناء علاقة الموسيقار فاجنر ولودفيج ملك بافاريا
فماذا عن علاقةام كلثوم بالسلطة?..لم يتحدث موريسون عن علاقة ام كلثوم بالسلطة
ولكن الكاتب حازمصاغية هو الذى تحدث بل وخصص لهذه القضية كتابا كاملا عنوانه:"ام
كلثوم سيرة ونصا...الهوىدون أهله".
وكمصرية حتى النخاعتساهم أم كلثوم فى المجهود الحربى للجيش المصرى بعد هزيمة 1967
فترأس تجمعا لهذاالغرض وتقدم بين ماتقدمه اسورة كبيرة مرصعة بالماس وعقدا هو عبارة
عن سلسلة ذهبيةمجدولة طولها متران وساعة ذهبية وعقدا اخر مرصعا بالماس.
لكنها-كما يقولحازم صاغية- قبل جمع المساعدات وتقديمها هبت واقفة وراء المجهود الحربى
وقررت ان تجوبالبلاد كايزيس فى محاولة للبعث واعادة الروح ويدفعها البعث الى
فرنسا فلا تنسىان ترسل الى الرئيس شارل ديجول برقية تؤكد احساسها برسالتها وشكرها
له على تأييده"العدالة والسلام".
ومامن شك فى اننمو الظاهرة الكلثومية سار فى موازاة تطورات موضوعية لم يكن بد من
الخضوع لها والافادةمنها ففيما يبدو حازم صاغية فى كتابه مهتما بمسألة اشتقاق تاريخ
الفن من تاريخالسياسة وهى مسألة استمرت فى ظل مصر الساداتية كما كانت فى عصر
مصر الناصرية وهاهوالرئيس المصرى الراحل انور السادات يبدو وكأنه صاحب "الخلطة
السحرية"لدعاء او اغنية دينية اقترنت بشهر رمضان وهى اغنية "مولاى".
كانت "مولاى"واحدة من اربعة موشحات او ادعية دينية شارك فيها الثلاثى بليغ حمدى
كملحن وسيد النقشبندىكمنشد وعبد الفتاح مصطفى كشاعر وحملت الموشحات الثلاثة الاخرى
عناوين:"اقول امتى..ويارب..ولاالله الا الله".. لكن انشودة "مولاى" هىالتى استأثرت
بالقدر الأكبرمن الاعجاب وظلت تزداد سحرا بمرور الزمن وتفيض العيون دمعا
كلما انساب صوتالشيخ سيد النقشبندى بكلمات عبد الفتاح مصطفى التى لحنها بليغ حمدى..
ووصف هذا التعاونبين الملحن والمنشد والشاعر بأنه "خلطة سحرية كان يقف خلفها
الرئيس الراحلانور السادات".
يلاحظ حازم صاغيةفى كتابه عن ام كلثوم وجود صلة وثيقة بين بعض المشائخ والمنشدين
الدينيين والموسيقىويقول:ان ماعزز هذه الصلة هو ان اولئك الذين يبرعون فى اصواتهم
عند القاء الاناشيدالدينية هم الذين تراودهم فكرة الاستمرار فى الصنعة فرأينا
ابرز المشتغلينبالغناء والموسيقى فى القاهرة مطالع القرن العشرين وفى نصفه الأول
مشائخ ازهرييناهمهم يوسف المنيلاوى وأبو العلا ومن بعدهما زكريا احمد والقصبجى
او متفرعين عنعائلات فيها مشائخ ورجال دين..يبدو واضحا ان الشيخ سيد النقشبندى
ينتمى لهذه السلالةالمبدعة والتي تجيب بطريقتها عن علاقة الفن بالمجتمع والسلطة
وعن علاقة الفنوالسلطة يفصح فاليرى جريجيف لأرثر لوبوف المحرر بنيويورك تايمز عن
رأى غريب فهو يرىان كوادر السلطة السوفييتية لم تكن غبية ورغم ان المضايقات التى
تعرض لها فنانونمثل بروكوييف وشوستاكوفيتش فانها كانت تدرك جيدا ان هذين الفنانين
بالتحديد هما سيداالابداع الموسيقى فى الاتحاد السوفييتى وقامتان لايمكن الاستغناء
عنهما او اسكاتهماولكن المطلوب تخفيف حدة الانتقادات المبطنة فى ابداعات
بروكوييف وشوستاكوفيتشاو ترويضهما ليكونا اكثر استجابة لرغبات النظام.
هكذا تؤثر السياسةفى الموسيقى والعكس صحيح سواء فى روسيا او مصر شأنهما شأن اى بلد
ويقول حازم صاغيةفى كتابه عن ام كلثوم:يرتب اشتقاق تاريخ الفن من تاريخ السياسة
وادراج ام كلثومفى التاريخ الثانى مقدمة التماثل بين الشعب وصوته ولايلبث تماثل
الهوية ان يتقدمفى خط مستقيم استقامة الذات القومية حين ترى الى نفسها فتغنى
ام كلثوم بين ماتغنيهنشيد مصر الوطنى "والله زمان ياسلاحى" فى عام 1956 والذى اصبح
احد النشيدين العربيينللناصرية..ولأنها تعبر عن مصر وامتداد لدورها العربى غنت
لشعراء عرب منسائر البلدان..فمن السودان غنت للشاعر الهادى آدم اغدا القاك ومن
سوريا غنت لنزارقبانى اصبح عندى الآن بندقية ومن لبنان غنت لجورج جرداق هذه ليلتى
ومن السعودية غنتلعبد الله الفيصل من اجل عينيك.
ولم يغب عن امكلثوم البعد الاسلامى لمصر ذات الدوائر الثلاث فى عرف جمال عبد الناصر
فغنت من باكستانحديث الروح شعر محمد اقبال..واذا كانت الوحدة العربية احد شعارات
مصر فى زمنها الناصرىفقد جمعت ام كلثوم من قلوب العرب ووحدت من كلمتهم ماعجزت
عنه السياسات والادعاءاتوالدعايات والصحف فالعرب لم يلتقوا من الخليج الى المحيط
فى اتفاق ورضاحول احد كما التقوا واتفقوا على ام كلثوم.
وفى بلد بحجم روسيالايمكن القول ان الفصل بين السياسة والموسيقى مسألة سهلة وعندما
وظف جريجيف فنهالموسيقى فى خدمة السياسة الروسية اثناء حرب صيف 2008 مع جورجيا
فانه كان وفيالتراث طويل ولم يخرج عن النص المتعارف عليه فى بلاده عن علاقة الفن
بالسياسة!.
ومنذ زمن القياصرةالى عصر السوفييت احتلت الموسيقى مكانة شبه مقدسة فى الحياة الروسية
ووجدان الشعب ولمتبتذل ابدا الا تحت القصف المستمر من جانب أسوأ النزعات التجارية
للرأسمالية التىتفوقت فى جبروتها على القبضة الحديدية للسلطة الشيوعية !.
نعم وحدها الرأسماليةبنزعتها التجارية المقيتة عندما ترغب فى الكسب بأى سبيل هى التى
نالت من رونق الموسيقىالروسية!..وفى بلد مثل مصر خرج الملحن حلمى بكر بتصريحات
قبل ثورة 25 يناير2011 قال فيها:"ان المبدعين حاليا لايجدون شيئا للتغنى به..فالحالة
الاقتصادية مترديةواحوال الناس تعبانة".
وفى معترك السؤالالكبير والمشروع عن علاقةالفنان بالسلطة يعمد البعض لنفى الحقائق
ومحاولة النيلمن ابداع الفنان لاسباب ايديولوجية ومصالح سياسية تتعلق بالرغبة
فى اقصاء عصر بأكملهوبرموزه الساطعة من ذاكرة اجيال حتى لاتتكرر التجربة التى اقضت
مضاجع البعض.
يبدو ان الموسيقارالروسى فاليرى جريجييف لم يتعرض حتى الان لمثل هذه المحاولات التى
تخلط بين السؤالالمشروع والتشويه المتعمد..لم يسع احد فى الغرب على الاقل حتى
الان للتشكيك فىحقيقة ابداع جريجييف خلافا لما حدث مع بعض المبدعين في مصر ولاسباب
سياسية!.
وفاليرى جريجيفعاشق للبيكولو هذه الالة الموسيقية التى تكاد تعادل الناى فى الموسيقى
الشرقية واستخدمهابمهارة عندما قدمت فرقته "طقوس الربيع" لسترافينسكى فى مطلع
عام 2009 بلندن..وككثيرمن الفنانين فان جريجييف البالغ من العمر 59 عاما لايميل
للنظام المفرطوبحاجة دائما لهامش من الحرية او حتى الفوضى ليتخفف من ضغوط البرنامج
اليومى المزدحمبصورة قد تخنق الفنان وتنال من قدرة اجنحته على التحليق فى سماء
الابداع.
ولأن هناك دائمامن يتربصون الدوائر بمن حققوا الشهرة العالمية والنجاح المدوى فى
اى مجال بهذه الدنيافان الفن ليس استثناء بل انه حافل بالمكايدات والاحقاد والضغائن..ولم
يسلم فاليرى جريجيفمن انتقادات حادة تتهمه بأنه لم يعد بالموسيقى وانما
هو رجل سياسة واعماليبحث عن الربح بالمعايير التجارية الفجة والصادمة لروح الفن.
غالبا ماتعبر هذهالانتقادات داخل روسيا عن حنين خفى للعصر السوفييتى عندما لم تكن
مسألة المال مبعثقلق للفنان وحتى اولئك الذين عانوا فى ظل النظام الشمولى للاتحاد
السوفييتى السابقيعترفون بذلك ويسلمون بأن هذا النظام لم يخل من جوانب ايجابية
للفن.
وتقول عازفة البيانونينا كوجان وهى من عائلة موسيقية مرموقة فى موسكو:"فى هاتيك الأيام
لم يكن شيئا يشغلبال الفنان سوى فنه ولم يكن الناس هنا منهمكين فى مشاهدة
المسلسلات التلفزيونيةالأمريكية او مشغولين بالكتب الرخيصة كما يحدث الآن فى روسيا
التى تراجع فيهاالاهتمام بالموسيقى حتى ان الموسيقى المحترف قد لايكسب من فنه
مايقيم اوده".
ويقول فاليرى جريجييف:"علىالاوبرا والباليه والسيمفونية ان تتنافس مع وسائل التسلية
الشعبية"..نعمفالجمهور اختلف كثيرا عما كان عليه الحال فى زمن الاتحاد السوفييتى
والجمهور شغوفالآن بنجمات الاثارة بأجسادهن الساحرة والقصص التى تنسجها الصحافة
الشعبية حول اخرفضائحهن!..نجمات اسهم جريجييف ذاته فى صنع اسمائهن اللامعة
مثل انا نيتريبكوواولجا بورودينا.
ويصل عدد العاملينفى فرقة مارينسكى الى 2000 شخص لتكون من اكبر المؤسسات الموسيقية
فى العالم وتقدمبرنامجا حاشدا يتضمن الاوبرا والباليه والموسيقى الاوركسترالية
كما تقدم عروضهاداخل روسيا وفى الخارج ويحرص فاليرى جريجييف على توظيف علاقاته
الجيدة برجال الكرملينللحصول على دعم مالى مستمر لهذه الفرقة الكبيرة.
وهاهو يسترجع السنواتالثلاث العصيبة التى انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتى ويقول
بمرارة لكاتب سيرتهجون اردوين :"كانت الاوضاع فى اعوام 1989 و1990 و1991 لاتطاق
فالدولة تتمزقوكما حدث فى مجالات شتى فان بعض انبه وافضل الموسيقيين غادروا الدولة
التى تغرق للخارجليعيشوا فى المهجر مثلما فعل جيدون كريمر ويفجينى كيسين وفاديم
ريبين وماكسيمفينجيروف.
خسر الوطن الكثيرمن افضل الموهوبين واروع المبدعين دون ان يكترث احد سواء من الشيوعيين
الذين حكموا الاتحادالسوفييتى او من جاؤوا لحكم روسيا بعد انهيار الاتحاد
السوفييتى وهميعتبرون انفسهم من الديمقراطيين".
ومن هنا حرص جريجييفكل الحرص على منح اولوية لمسألة احتضان ورعاية الموهوبين من الشباب
الروسى فى الموسيقىوتهيئة بيئة اقتصادية تحفزهم على البقاء داخل الوطن بدلا
من التسرب للخارج.
وللانصاف فان فرقةمارينسكى باتت واحدة من اشهر الفرق الموسيقية فى العالم فيما تعد
الاشهر على الاطلاقداخل روسيا التى تراجعت فيها مكانة فرقة مسرح البولشوى رغم
ان مسرح البولشوىهيمن على الحياة الثقافية فى روسيا طوال العصر السوفييتى.
الآن تعانى فرقةالبولشوى المسرحية من الركود وجمود الأفكار فضلا عن نزاعات داخلية
ويتذكر جريجييفبأسى رفض الرئيس الروسى السابق يلتسين فى لقاء جمع بينهما فى شهر
يناير عام1998 طلبه بزيادة الرواتب التقاعدية الضئيلة لقدامى الموسيقيين والفنانين.
والغريب ان الرئيسالذى رفض ان تمد الدولة يد العون لفنانين لايجد بعضهم مايسد الرمق
هو ذاته الذى تحمسفورا لاقتراح طرحه جريجييف ببناء مسرح جديد على النموذج الأمريكى
ووافق على تقديمالدولة الدعم المالى لتنفيذ هذا الاقتراح بتكلفة تعادل 30
مليون دولار امريكى.
انه الولع بأمريكاوالرغبة فى محاكاتها كما يفسر جريجييف هذه الاستجابة الفورية من
جانب يلتسين!..وفيمابعد نجح جريجييف فى توظيف علاقاته الوثيقة بكبار المسؤولين
واثرياء روسياالجديدة لبناء دار اوبرا لفرقة مارينسكى تصل تكاليفها الى 500 مليون
دولار امريكى.
انه الموسيقارالذى ينتمى لتلك المدرسة التى تجعل المشاهد يجلس على حافة مقعده فى
دار الاوبرا مشدوداللعرض وكله تركيز فيما يحدث امامه وهو يتوقع مفاجآت فنية فى اى
لحظة ونقطة البدايةلذلك كله حضوره الطاغى وتأثيره الملهم على اعضاء فرقته!.
عندما كان فاليرىجريجييف فى الرابعة عشرة من عمره توفى والده فى يوم يصفه فاليرى
بأنه "اليومالأكثر حزنا فى حياته" وانصرف الفتى اليتيم ليفرغ احزانه فى العزف على
البيانو وتعلممن استاذه ايليا ميوسين ان يكون صاحب شخصية ميزة ولون خاص فى الموسيقى...والأهم
انه تعلم اهميةاحترام الجمهور عبر الصدق والاخلاص فى الفن والا
فان الجمهور سينصرفوالأضواء ستطفىء.
والحقيقة ان الأوبراالمصرية نجحت حتى الآن في موسمها الصيفي هذا العام في جذب الجمهور
فيما تسطع اضواءالمسرح الصيفي او المكشوف على وجوه ناضرة ومتلهفة لكل ماهو
جيد وبعيد عن الاسفافخلافا لمقولات ظالمة للمصريين !.