القاهرة 27 يوليو 2014 الساعة 04:33 م
الاثنين 21/7/2014: تلك التراجيديا
ماذا لو كنتَ فلسطينياً؟
إسألْ نفسَكَ وابحثْ عن الجواب تجده في أحوال الفلسطينيين، الشعب الأعلى نسبة في المتعلمين العرب، والأكثر تجربة حداثية في الشرق الأوسط عبر حضور نخبه في قلب العلاقات مع الغرب في المجالات الأكاديمية والاقتصادية والسياسية. (مع الاعتذار للشعب اللبناني الذي ينافس الفلسطينيين في هذه المجالات إقليمياً ودولياً).
وإذا استعرضنا مراكز الدراسات العربية أو الشرق أوسطية أو الإسلامية، في جامعات أوروبا والولايات المتحدة وكندا، يتبين ان الخبراء في هذه المراكز نصفهم يهود والنصف الآخر في معظمه من الفلسطينيين، والقليل الباقي يشغله لبنانيون.
الفلسطينيون أيضاً هم أهل الضفة والقطاع والمخيمات في الأردن وسورية ولبنان، يتمسك هؤلاء بالحلم الفلسطيني ويرفعون علم دولتهم/ وطنهم ذات الوجود العريق، دولة لم توجد حقاً في عصبة الأمم أو في الأمم المتحدة، وأقصى ما حققته اعتراف شاحب في منظمات دولية ذات طابع إنساني.
ويحار الفلسطيني الفرد بين وطنية هي حقيقته الجامعة، بفلاحيه ومدنييه وبدوه وبأهل اللجوء والشتات، وقومية عربية تسند قضيته بل تلتزمها قضية وحيدة، وإسلام سياسي يخفف من التشرد أو وطأة الاحتلال حين ينتسب الفلسطيني الفرد إلى أمة عابرة الأوطان والقوميات والأعراق ويعتبرها ملعبه الواسع. هكذا أسس الفلسطيني تقي الدين النبهاني «حزب التحرير» حلاً لمشاكل الأمة يتركز على الوصفة السحرية: «الخلافة» التي ما إن تعلن حتى تحل مشاكل المسلمين كلها! وهكذا رأى عبدالله عزام افغانستان أقرب الى الضفة الغربية حيث نشأ وعاش من إسرائيل الواقعة على مرمى حجر. لم ينفِ عداءه لإسرائيل لكنه لم يضعها في الأولويات.
بين وطنية تعلو وتهبط وفق درجة الحرب المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقومية عربية لم تجد تعبيرها الاجتماعي سوى في الأردن وسورية حيث يتساوى الفلسطيني بأهل البلد في الواجبات والحقوق، وإسلاموية سياسية تؤمن تعويضاً للفلسطيني التائه حين تعجز الوطنية والعروبة عن توظيف حيويته والاعتراف بها. لكن هذه الإسلاموية أشبه ما تكون بالعدمية حين تحطم أوطاناً وتهدم مجتمعات وتعطل الحياة الإنسانية من اجل فقهاء مضى زمنهم وانتهت صلاحية فتاواهم.
التراجيديا الفلسطينية هذه تجد أبلغ تعبير عنها في شعر محمود درويش وفي مزاجه الوطني الإنساني، فهو بقدر ما يلامس الشخصية الحضارية لشعبه الضاربة في عمق التاريخ، يرى بذكاء الشاعر وحساسيته تلك الأواصر التي تنعقد بين العدو والعدو، أي بين الفلسطيني والإسرائيلي، ففي الصراع الطويل يجد الطرفان نقاط اشتراك، بل إن هذه النقاط تتخلق أثناء الصراع. هكذا يقرأ الإسرائيلي توراته الجديدة في مقتلة يرتكبها بحق المدنيين الفلسطينيين، وينفتح الفلسطيني على اليوميات الكنعانية الطالعة فجأة من ركام التاريخ لتبدو واقعاً معيشاً.
هذه الملامح التراجيدية لا يعرفها العرب الآخرون ولا المسلمون الآخرون. إنها خصوصية فلسطينية بقدر ما هي خصوصية إسرائيلية، والمشكلة مفتوحة على المستقبل. من يدري، ربما يلتقي اللدودان يوماً على مصلحة مشتركة حين يكتمل حنين أوروبا إلى فاشيتها أو حين يدرك العرب الآخرون والمسلمون الآخرون أنهم أهمَلوا مشاكل تهدم مجتمعاتهم من اجل قضية لم يفهموها حق الفهم بقدر ما ترجموها الى عصبيات وصراعات.
انظر إلى الحروب العنصرية التي تخاض في المشرق العربي متذرعة بشعارات إسلامية، فهي أشبه بتطوير حربي ودموي للأهاجي القبلية، كما يعبر عنها الشاعر جرير في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة مخاطباً الراعي النميري شاعر مُضر وكبيرها:
فغضّ الطرفَ إنكَ من نمير
فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
> الثلثاء 22/7/2014: محمود درويش
لو كنتَ فلسطينياً لأنشدتَ بلسان محمود درويش:
«وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتى،
وقالوا: أنت قاتل.
أخذوا طعامه والملابس والبيارق
ورموه في زنزانة الموتى،
وقالوا: أنت سارق.
طردوه من كل المرافئ
أخذوا حبيبته الصغيرة،
ثم قالوا: أنت لاجئ.
يا داميَ العينين والكفّين إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل.
نيرون مات، ولم تمت روما. بعينيها تقاتل،
وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل»
> الأربعاء 23/7/2014: مريد البرغوثي
ولو كنتَ فلسطينياً لاعتبرتَ قصيدة مريد البرغوثي قصيدتك اليوم:
«يكاد يلامس زر الجرس،
فإذا الباب، في مهل لا يُصدِّقْ، يأخذ في الانفراج. ويدخل. يخطو إلى باب غرفته
حيث صورته بجوار السرير الصغير،
وحيث حقيبته المدرسية ساهرة في الظلام
يرى نفسه نائماً بين حلمين أو علمين،
يدقُّ على غرف البيت،
يوشك،
لكنه لا يدقُّ،
فيستيقظ الكلّ في ذهل: عاد... والله عاد!
يصيحون،
لا يسمعون لصيحتهم أي صوت،
يمدون أذرعهم لاحتضان محمد
لكنها لا تلامس أكتافه.
ودّ لو يسألُ الكلَّ عن حالهم تحت
قصف المساءات.
لم يجد الصوت.
قالوا كلاماً ولم يجدوا الصوت.
يدنو، ويدنون
مرَّ. مروا. استمروا ظلالاً تمرُّ خلال ظلال ولا تلتقي!
وقالوا، وقال، ولا صوت.
لا جرس الباب رنَّ!
ولا كان زائرُهم نائماً في السرير الصغير
ولا هم رأوه.
وعند الصباح تهامس أهل الجوار بأن الرواية محض خيال، فهذي حقيبته المدرسية مثقوبة بالرصاص، على حالها، ودفاتره غيّرت لونَها، والمعزّون ما فارقوا أمه،
ثم، كيف يعودُ الشهيد إلى أهله، هكذا، ماشياً، رائقاً
تحت قصف مساء طويل».
> الخميس 24/7/2014: سميح القاسم
ولو كنتَ فلسطينياً لاستدركتَ مع الشاعر سميح القاسم، في البداية:
«دم أسلافي القدامى لم يزل يقطرُ منّي
وصهيل الخيل ما زال، وتقريعُ السيوف،
وأنا أحمل شمساً في يميني وأطوف
في مغاليق الدّجى... جرحاً يغنّي».
ثم يوصل الاستدراك:
«أحسُّ أننا نموت
لأننا لا نتقن النضال
لأننا نعيد دون كيشوت
لأننا... لهفي على الرجال».
> الجمعة 25/7/2014: ابراهيم نصرالله
ولو كنتَ فلسطينياً لتخيلت الناجين مع ابراهيم نصرالله:
«سمعنا حوافرَ أفراسِهم
فاختبأنا هنا في الزوايا
وتحت الأسرّة... بينَ الضلوع،
اختبأنا كعاصفة في الغصون.
سيتعبُ زيتونهم آخر الأمر. قُلنا
وقد ينزل الثلج...
أو يعبرُ الجندُ هذا المساء ثقالاً وفي لحظة يُقتلون وقد يتعبون كأمنية أُطفِئت شمسُها، ثم ينتحرون!
هو الليلُ ثانية، والرياحُ.
حَبَسْنا الهواء انكفأنا
وكممَ خوفٌ طليقٌ يدينا ونبضاتنا.
لنقم كلُّنا. قال آخرنا. ثم نسألهم:
أيها الساهرونَ على بابنا منذُ عامٍ وليلين.
ماذا تريدون؟
كانت عواصفُ من جثث تتدافع بين الزوايا
ورائحةُ الموت صاعدةً من سطوحِ المرايا
ولونِ العيون: لنقمْ كلّنا. قال آخرنا.
وإذ بلغَ الباب صاحوا بنا:
... لا تفتحوا أيها الميتون».