القاهرة 27 يوليو 2014 الساعة 04:15 م
الحديث النظري عن الديموقراطية كنظام سياسي، والتفصيل في مختلف جوانبها ومفرداتها سهل. غير أن الصعوبة تبدو في الإعمال الدقيق للمبادئ النظرية موضع التطبيق. يصدق ذلك على الدول المتقدمة والدول النامية على السواء.
غير أنه يمكن القول إن الفجوة بين النظرية والتطبيق التي يمكن ملاحظتها في كل المجتمعات الديموقراطية المعاصرة بالغة الاتساع في الدول النامية، إذا ما قورنت بالدول المتقدمة.
ويرد ذلك في الواقع إلى عديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعلى رأس العوامل السياسية في المجتمعات النامية سيادة النظم الشمولية والسلطوية، وما تركته من آثار سلبية عميقة في السلوك السياسي المعلن للجماعات والأفراد، وفي اللاشعور السياسي ذاته.
وإذا كان بعض النظم السلطوية يحاول الآن – تحت تأثير مطالب الداخل وضغوط الخارج – الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية، فإن عملية الانتقال تقابلها صعوبات شتى من قبل الحاكمين والمحكومين على السواء. بالنسبة للحاكمين يعز عليهم كثيراً التخلي عن سلطاتهم المطلقة التي تعودوا عليها، والتنازل عن نفوذهم المؤثر، ما من شأنه أن يؤثر في مصالحهم الطبقية إلى حد كبير. ولذلك نجدهم يمانعون ويقاومون عملية الانتقال إلى الديموقراطية بأساليب مباشرة وغير مباشرة. وفيما يتعلق بالمحكومين الذين تعودوا عبر حقب تاريخية ممتدة أن يمارس أهل السلطة بكل مستوياتهم القهر المنظم لهم، ليس من السهولة بمكان أن يسلكوا سياسياً ويتصرفوا اجتماعياً باعتبارهم مواطنين أحراراً من حقهم - في الانتخابات المختلفة – أن يقولوا نعم أو يقولوا لا لأنصار مرشحي الحزب الحاكم أو الحزب المسيطر. وسيظل الطابع العام لسلوكهم لفترة تاريخية مقبلة هو اللامبالاة السياسية التي تنعكس في عدم الإقبال على الانضمام للأحزاب، والامتناع عن التصويت، ما يقلل إلى حد كبير من عدد المشاركين في الانتخابات قياساً بالعدد الإجمالي لمن لهم حق التصويت. والواقع أن هذا السلوك السلبي من المحكومين إنما يتضمن في الواقع إدانة جهيرة للنظم السلطوية التي مارست القهر المنظم على الجماهير، والتي لم تجد وسيلة فعالة للاعتراض سوى هذا السلوك السلبي.
وهكذا يمكن القول إن السلطوية تقف على رأس قائمة العوامل السياسية المؤدية إلى اتساع الفجوة بين المبادئ النظرية للديموقراطية وبين التطبيق، غير أن هذه الأوضاع قد تغيرت في الحقيقة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.
إلا أنه إضافة إلى ذلك هناك عوامل سياسية أخرى، أهمها ضعف الأحزاب السياسية، وانعدام تأثير مؤسسات المجتمع المدني إذا وجدت في المجتمع.
ولا شك أن ضعف الأحزاب السياسية يرد – في جانب منه – إلى تأثير السلطوية القامعة التي حاربت التعددية الحزبية حتى تنفرد بالمسرح السياسي، وحتى إذا قبلت بها فإنها تضع قيوداً متعددة على حركة الأحزاب السياسية المعارضة لحساب الحزب الحاكم أو المسيطر حتى تفقدها فاعليتها، وتمنع تأثيرها في اتجاهات الناخبين السياسية. وإذا أضفنا إلى ذلك الضعف الداخلي للأحزاب السياسية ذاتها، من ناحية عجزها عن التجدد الإيديولوجي، وعدم قراءتها الدقيقة لتغيرات المجتمع العالمي، وافتقارها للديموقراطية داخلها، وعدم قدرتها على ضم مجموعات كبيرة من الشباب إليها، لأدركنا أحد أسباب الفجوة بين النظرية والتطبيق.
غير أن هناك أسباباً اقتصادية تؤثر بالسلب في تطبيق المثال الديموقراطي، ويتمثل ذلك في قوة رأس المال، والتأثير السلبي لرجال الأعمال في سير العمليات الانتخابية من ناحية، والفقر الشديد لجماعات شتى من الناخبين من ناحية أخرى.
وإذا كان نفوذ رجال الأعمال قد ارتفع بشدة في بعض المجتمعات العربية التي تنتقل ببطء من السلطوية إلى الديموقراطية، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية في ظل إيديولوجية الليبرالية الجديدة، فلنا أن نتوقع التأثير السلبي لدخولهم حلبة السياسة مباشرة أو بالوكالة!
غير أنه إضافة إلى الأسباب السياسية والاقتصادية التي تحول دون التطبيق الكامل والفعال للمثال الديموقراطي، هناك أسباب اجتماعية وثقافية متعددة.
ولعل في مقدم هذه الأسباب الاجتماعية أن القبلية تسود إلى حد كبير في عديد من المجتمعات العربية، سواء في المجتمعات الحضرية أو الريفية أو البدوية.
والقبلية هنا لا تشير فقط إلى انتشار وتعدد وصراع القبائل بالمعنى التقليدي للكلمة، بما يتضمنه ذلك من التشيّع لابن «القبيلة» في مواجهة أبناء القبائل الأخرى، ولكنها تشير أيضاً إلى الأسر الممتدة والعائلات الكبيرة حيث يتم الانحياز إلى أبناء الأسر والعائلات في الانتخابات أيا كانت اتجاهاتهم السياسية، وسواء كانوا ينتمون إلى الحزب الحاكم أو الحزب المسيطر أو إلى الأحزاب المعارضة! ومعنى ذلك أن القبيلة أو العائلة هي المحك، وليس البرنامج السياسي الذي يطرحه المرشحون.
وإذا أضفنا إلى ذلك شيوع البلطجة والإرهاب أثناء سير العمليات الانتخابية من قبل مرشحين ينتمون لمختلف الأحزاب السياسية للتأثير في السلوك الانتخابي للناخبين، لأدركنا أن في ذلك تهديداً لصميم القيم الديموقراطية. وجدير بالإشارة أن هذه الظواهر السلبية لا تتم إلا في المجتمعات المتخلفة حيث يسود الجهل وتنعدم فاعلية أجهزة الأمن، الذي يعجز عادة عن حماية الناخبين وأحياناً المرشحين من هذا العدوان الظاهر على حرية الناس.
وهناك إضافة إلى الأسباب الاجتماعية أسباب ثقافية أحياناً ما تكون بالغة العمق في التأثير السلبي في سلوك الناس. وأبرز هذه الأسباب الثقافية شيوع الاتجاهات الإسلامية السياسية الرجعية والمتطرفة، وتأثيرها في العقل الجمعي من خلال رفع شعارات إسلامية جذابة في ذاتها، وإن كانت خاوية من أي مضمون سياسي. وأبرز مثال لذلك شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعته جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. وحين سئل أحد أقطاب الجماعة عن المضمون الحقيقي لهذا الشعار الفضفاض زعم أنهم يقصدون الإسلام لا بالمعنى الديني ولكن بالمعنى الثقافي، ويقصد الثقافة الإسلامية. وهذا في الواقع مجرد تبرير لا معنى له، وهروب واضح من تحديد المضمون السياسي لهذا الشعار.
وقد دفع هذا المسلك بعض المرشحين الآخرين إلى الدخول في مزايدة مع «الإخوان المسلمين» في مجال رفع الشعارات الدينية، فرفع أحد المرشحين في الانتخابات المصرية شعار «الله هو الحل»، ورفع مرشحون آخرون آيات قرآنية أخرى.
وفي تقديرنا أن خلط الدين بالسياسة يعد عدواناً غير مبرر على المثال الديموقراطي، ومن شأنه أن يؤدي إلى توترات اجتماعية بالغة العنف. وهو ما تفعله بإصرار جماعة «الإخوان المسلمين» في سعيها الدؤوب لتأسيس دولة دينية تقوم على الفتوى ولا تقوم على أساس التشريع الذي يتم في مجالس نيابية منتخبة في انتخابات نزيهة وتحت رقابة الرأي العام.
ويبدو صدق هذا التحليل من النتائج الكارثية لحكم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر والتي حاولت أن تقيم دولة دينية، غير أن الانقلاب الشعبي ضد حكمها قطع الطريق على هذا المسار.
وإذا أضفنا – أخيراً – الى الأسباب الثقافية شيوع الأمية في الوطن العربي، والتي قد تصل إلى نسبة أربعين في المئة من مجموع السكان، ما يمنع الناخبين من الاختيار الرشيد بين البرامج المطروحة في الساحات السياسية، لأدركنا أن الفجوة ما زالت واسعة حقاً بين النظرية الديموقراطية والتطبيق في بلادنا العربية.
نحن في حاجة إلى رؤية استراتيجية شاملة للنهوض بالمجتمع العربي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. بغير ذلك ستصبح الديموقراطية لو طبقت مجرد بناء فوقي قد يكون جذاباً من ناحية الشكل، ولكنه لا يعبّر عن البنية التحتية المتدهورة.