القاهرة 27 يوليو 2014 الساعة 03:52 م
الأسبوع مزدحم بما يستحق التعليق. على مستوى العالم كان إسقاط طائرة الخطوط الماليزية فوق شرق أوكرانيا، أثناء رحلتها رقم 17 المتجهة من أمستردام إلى كوالالمبور، حدثا هائلا رجّ المجتمع الدولى كله. ولم يكن ذلك لأن عدد الضحايا بلغ 294 راكباً فقط، أو لأنهم كانوا من جنسيات متعددة فحسب، ولكن لأن المنطقة التى سقطت فيها وقعت على خطوط التماس فى الحرب الباردة العالمية الجديدة بين روسيا والغرب.
على مستوى الإقليم، نشبت الحرب الثالثة على غزة، وبينما دخلت القوات الإسرائيلية إلى القطاع بالحديد والنار وتدمير المنازل وحصد الأرواح، كانت حماس وحلفاؤها تتسلل عبر الأنفاق إلى إسرائيل لكى تأتيها الهجمات من أسفل، بينما الصواريخ تهبط من عل. وهكذا اختلط الصراع التاريخى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والعرب والإسرائيليين، والدولة والجماعات الإسلامية «المجاهدة»، وكل ذلك فى مشهد ممتد من العنف الدامى من سيناء والفرافرة فى مصر وحتى الفالوجا وتكريت فى العراق.
ولكن الظن هنا هو أن كل هذه المعارك، أو على الأقل ما يعنينا منها- يعبر عن تناقضات من ناحية وخلل فى توازنات القوى من ناحية أخرى، ولن يصحح هذا وذاك إلا استرداد مصر عافيتها، وانطلاقها بقوة وعنفوان. ومن قال إن مصر هى رمانة الميزان فى محيطها وما وراءه لم يخطئ، وهى لا تكون كذلك إلا عندما تأخذ بأسباب القوة الشاملة وجوهرها.
ومن متابعتى اليومية كل ما يحدث فى مصر فإنه من الصعب تجاهل حالة البريق الجارية فيها، حيث توالت قرارات واجتماعات وعناوين كلها تركز على التنمية والاستثمار بسقوف عالية. هناك ما يحزن، ويفطر القلب نعم، وما جرى فى الفرافرة سوف يضيف جرحاً إلى جراح غائرة، ولكنه كاشف فى نفس الوقت عن الطبيعة الوحشية لجماعات سياسية غابت عنها الوطنية والإنسانية.
ولكن ذلك لن يأخذنا بعيداً عن المسار الأساسى، وهو أن التنمية بمعناها الشامل هى الخلاص الذى يفتح العقول، ويرهف القلوب، ويقوى السواعد، ولذلك فإن العيون لابد أن تكون فاحصة ودارسة لكل الخطط التى يجرى عرضها بسرعة ووضعها على شاشات التليفزيون وعناوين الصحف، فاستصلاح أربعة ملايين من الأفدنة منتشرة فى كل أنحاء مصر، و3000 كيلو من الطرق الواقعة على كل المحافظات، وعاصمة إدارية جديدة للبلاد على طريق القاهرة السويس بدلا من مدينة السادات التى كانت هى الأخرى مشروع عاصمة، ومشروع قناة السويس، ومحور التنمية، وهكذا مشروعات ومليارات يجرى إعلان النية عن إنفاقها بين هذا وذاك- كل ذلك يمكنه بث التفاؤل فى البلاد، ويخلق مدعاة للفرحة لم نشعر بها منذ وقت طويل. ومع ذلك فإن الصراحة تقتضى نوعاً من الحيطة، سواء على جانب التكلفة، أو على جانب العائد، أو فى تحديد الأولويات، لأن مصر خلال العقود الماضية جرت وراء أحلام كثيرة تحقق القليل منها، وبعض ما لم يتحقق تحول إلى كوابيس.
وباختصار: فإن بعضاً من الدراسة والفحص ضرورى حتى لو بدأنا من فرضية توافر التمويل ورأس المال البشرى والمستثمرين، وكانت الأرض طيعة وراضية وقابلة لكى تحقق ما نرنو إلى تحقيقه. والحقيقة أن بعضاً من القلق لا يضر، ولا يبدده إلا إذا كان هناك «مفهوم» عام يقول لنا ما هى مصر التى نسعى إليها. ما عرض حتى الآن يتراوح ما بين أن تكون مصر بلدا زراعيا، عندما تضاف لمساحاتها المزروعة نصف مساحتها الزراعية الحالية تقريبا، أو أن تكون مصر كل شىء فى نفس الوقت بلدا صناعيا خدميا زراعيا سياحيا. المفهوم الأول فيه معضلات مبدئية، أولها (لا يحتاج إلى شرح كثير) هو ندرة المياه، وكم كان مدهشاً أن نستمع إلى وزير الرى، وهو يقول إن مصر تنحدر ليس فقط إلى مستوى الفقر المائى، ولكن تدخل دائرة الفقر المدقع!
لا يحل هذه المعضلة قول رئيس الوزراء إننا لن نعتمد على مياه النيل، وإنما على المياه الجوفية، وإن هناك دراسات تثبت أن لدينا مياها جوفية وفيرة. لم يقل لنا أحد من الذى قام بهذه الدراسات، وهل هم أفراد أو مؤسسات، وهل هناك مؤسسة دولية واحدة صدقت عليها. ما نعلمه عن الموضوع قليل، ولكن فحواه أن المياه الجوفية فى الصحراء الغربية فى أغلبها مياه متسربة من النيل، وفيما عداه يدعونا إلى الغوص فى أعماق كبيرة تجعل تكلفة استصلاح الفدان عالية للغاية، فتكون كل ثمارها عاجزة عن المنافسة، سواء فى السوق المصرية أو العالمية.
لقد بلغت تكلفة استصلاح الفدان فى مشروع توشكى أكثر من 7 آلاف جنيه، وكان المورد المائى سطحيا وقريبا، ولو أن التكلفة كانت معقولة، لزاد ما استصلحناه خلال عقد ونصف على 35 ألف فدان فقط لا غير، بعد أن كان الحديث شائعا عن استصلاح 450 ألف فدان.
لماذا حدث ذلك؟ وهل يجوز الآن أن نعود إلى المشروع مرة أخرى، لأن تكلفته حتى الآن بلغت 7 مليارات جنيه حتى ننفق 7 مليارات أخرى أو أكثر؟ مثل ذلك حدث من قبل فى مشروع تنمية فوسفات أبوطرطور، عندما كان الوعد قاطعاً بأن ما لدينا من احتياطات الفوسفات هائلة تسد عين الشمس، وتكون لمصر كما كان للبترول فى دول أخرى. سرعان ما تبينا أن لدينا جبالا من الفوسفات، ولكن كلها من النوعية الرديئة التى لا تحتاجها مصانع الأسمدة فى العالم. وحتى نعوض ما أنفقناه عرضنا الأمر على الاتحاد السوفيتى الذى وعد بتصميم مصانع تتلاءم وما لدينا. ولكن الاتحاد السوفيتى انهار، ومن ساعتها توارد على المشروع خبراء ومدعون، هدفهم كما هو حال المقامر تعويض الخسائر السابقة من خلال إنفاق جديد، والنتيجة «فاتورة» مخجلة، وضياع موارد كبيرة على بلد فقير.
هل نكرر المأساة مرة أخرى، ونضيف تجربة أخرى إلى تجارب مديرية التحرير والصالحية وغيرهما من مشاريع الدولة الزراعية التى لا تضيف الكثير؟ العجيب أن لدينا تجربة ناجحة لا شك فيها، وهى التى قامت على طريق «القاهرة- الإسكندرية» الصحراوى، حينما تولى حفر الآبار شركات زراعية كبرى، وكانت النتيجة أكثر من مليونى فدان من الأراضى المستصلحة التى تنتج ما هو قابل للتصدير والمنافسة. فإذا كانت الدولة مصممة على أن الزراعة هى طريقنا إلى القرن الواحد والعشرين، فربما يكون ذلك من خلال القطاع الخاص الذى يقبل المخاطرة، وهو لن يذهب إلى استثمار إلا إذا تأكد ألف مرة أن التجربة سوف تكون مجزية، وعلى الأغلب متكاملة، حيث تكون الصناعة والزراعة والخدمات هى النتيجة الطبيعية للمشروع الاقتصادى.
أعرف أن المقاصد نبيلة، ولكن المنهج الزراعى فيه إشكاليات كبيرة إلى جانب المياه والتكلفة المالية الطائلة، منها أنها لو استخدمت تكنولوجيات متقدمة فإنها تستخدم عمالة ضئيلة، ولا يحتاج الفدان الواحد لأكثر من عاملين، بينما لو تم استخدام نفس الفدان لأغراض صناعية، فإنه سوف يستخدم ألف عامل بين صناعات مختلفة ومتنوعة.
الأخطر من ذلك أن التنمية الزراعية فى عمومها تحتاج وقتاً طويلاً، فاستصلاح الأرض بتسويتها ومد المياه لها وتوفير البنية الأساسية لنقل منتجاتها يحتاج سنوات، ثم سنوات أخرى مماثلة لزراعة التجارب الأولى فى الأرض، وبشكل عام، فإن الأرض المستصلحة تحتاج قرابة عقد من الزمن لكى تنتج ما هو قابل للاستهلاك أو التصدير.
المصنع يفعل ذلك بمجرد الانتهاء من تركيبه، ويمكنه خلال سنوات قليلة سداد تكلفة البنية الأساسية، وقروض إنشاء المصنع. تعالوا نتخيل الموقف: تكلفة استصلاح ثلاثة ملايين فدان حتى وقت الإنتاج تصل إلى 40 مليار جنيه. سوف نكون متفائلين، ونأخذ الرقم، ونترجمه إلى صناعة، فنجد أنها تكفى 800 مصنع متوسط، قيمة كل مصنع 50 مليون جنيه، يعمل فيه 1000 عامل وموظف فى المتوسط، أى أننا سنوفر 800 ألف فرصة عمل، وبجوارها من خدمات ما يساوى نفس الرقم، وكل ذلك خلال عام أو عامين، وبعدها يتدفق الإنتاج والثمار إلى الأسواق.
باختصار: نحتاج بعضاً من الشرح، وبعضاً من فهم فلسفة التنمية، وقبل هذا وذاك نعرف أولوياتها، وهل هى الغذاء لشعب فقير، أم أنها تكون التصدير لشعب غنى؟! تلك هى المسألة.