القاهرة 15 يوليو 2014 الساعة 01:17 م
ويبقى الأمل مدفونا تحت ركام تاريخ طويل
مأساوي في معظم ظروفه ..
ومما يستحق الاهتمام بعد المراجعة السريعة لما حدث بفعل الماضي .. وما يحدث بفعل الحاضر .. وما هو مخطط ومقدر له أن يحدث ـ كما يتصورون ـ بفعل المستقبل القريب .. فإن النظر الصحيح للوقائع والأحداث ، والإجراءات العملية على الأرض ، لتحقيق غايات الهدف الصهيوني في صورته النهائية .. لابد له أن يأخذ اعتبارين في نفس الوقت : الأمر الواقع ، زائدا إحتمال تطوره كما يظهر من الوقائع والدلائل التي تشير إلى هذا الاحتمال .. وإن كنت أتردد كثيرا قبل أن أقول ، إنني أخشى أن نكون مقبلين على سنوات الصدمة والنتيجة المحققة في المشهد الأخير للمؤامرة الكبرى : تتمة تهويد " القدس الموحدة " وبامتداد أطرافها التي تضم " القدس الكبرى " .. وانهيار المسجد الأقصى !! وربما استطعت القول بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تختصر المراحل الزمنية ، وعلى هامش مالا يشغلها ، من احتجاجات أو إدانة أو قرارات الشرعية الدولية ، وقد وجدت أن الأرض مهيأة لمن يملك الفعل وجرأته وقوته .. وإن ما كان حلما منذ نهايات القرن الثامن عشر ، أصبح واقعا وبفعل المؤامرة وسطوة القوة وردعها !!
وهكذا .. فإن الماضي نفسه مفتوح ، رغم مرور الحقب والسنوات .. وكان حديث الماضي عن " وطن قومي لليهود " قد بدأ بحلم تدفع به وتدعمه الأساطير والعقيدة التوراتية ، وأصبح الحلم ركيزة الفكر الصهيوني منذ بدايات الدعوة لخلق وطن لليهود ، ثم تحول الحلم إلى حركة مستمرة تزحف في كل اتجاه ، تبحث عن كل عوامل وعناصر المساندة والدعم لتحقيقه .. وكأن المؤسسين الأوائل للمشروع الصهيوني ، قد استوعبوا المعنى والمغزى في الأغنية البرازيلية الشهيرة عن ( الحلم ) :
" إذا كنت أحلم وحدي .. فهذا مجرد حلم
إذا كان الحلم مشتركا .. أنت وأنا هو
وكل الناس معنا فيه ..
إذن فهذه هي الخطوة الأولى في تحقيقه "
ولم يكن غائبا عن الحلم أن " القدس " هي المبتدأ والخبر في جملة تأسيس المشروع الصهيوني فوق الجغرافية الفلسطينية .. وأن القدس هي رابطة الحلم وعنوانه الرئيسي .. وأن المسجد الأقصى يمثل واجهة بيت المقدس والركيزة القاعدية العربية الإسلامية للقدس .. ولذلك فإن ( القدس ـ الأقصى ) الواجهة الأمامية الواسعة لمسرح الصراع على التاريخ والجغرافية الفلسطينية !!
......
وكان حديث الماضي ، لايخرج عن نطاق فتح أبواب الهجرة في فلسطين أمام اليهود ، دون أي قيود يضعها طرف محلي أو دولي ، وضرورة مساعدة المجتمع الصهيوني ( التنظيمات الصهيونية ) في إنشاء الدولة ، عن طريق مساعدات مادية وسياسية وعسكرية كافية لتحقيق هذا المطلب .. واعتبار الدولة اليهودية المنتظرة جزءا من بناء العالم الديمقراطي الجديد الذي ستكون قيادته دون منازع للولايات المتحدة الأمريكية ـ وكما ورد في المادة الثامنة من إعلان مؤتمر بلتيمور الذي عقد في نيويورك 9/11/1942 بفندق بلتيمور ـ وبمشاركة كل التنظيمات الصهيونية في أوروبا وأمريكا ، وحضور كل من حاييم وايزمان ، ودافيد بن جوريون ، وناحوم جولدمان .. ومن العلامات المثيرة للاهتمام ـ وربما كانت من مفارقات الظروف ـ أن أهم مقولات الحركة الصهيونية الأوروبية لنظيرتها الأمريكية ، في تحديد الواجبات المستقبلية ـ خلال جلسات المؤتمر ـ " بأن يهود أوروبا استطاعوا الحصول على الوعد بالدولة " وعد بلفور " وقد أوشكوا على تحقيق قيام الدولة بمقتضاه ، وعلى يهود أمريكا أن يستكملوا الطريق بتحقيق هدفين ـ وقد تحددا بوضوح ـ وهما :
1 ـ " تأكيد وتثبيت قيام الدولة ".. وقد تحقق ، وزاد عليه الالتزام والتعهد الأمريكي الشهير الذي أعطاه هنري كسنجر لإسرائيل ، كتابة وبتوقيعه كوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس "ريتشارد نيكسون " وسبقه تعهدا آخر في ولاية الرئيس " ليندون جونسون " وهي شروط مكتوبة تقّر بأن الولايات المتحدة تتعهد بأن تحفظ لإسرائيل بتفوق عسكري .. وتتعهد بأن تحول دون أي قرار في الأمم المتحدة يوجه اللوم لها .. وتتعهد بأنه مهما كانت الظروف لن تمارس أي ضغط على إسرائيل تحت إلحاح أصدقائها من العرب .. وهي التعهدات الضامنة لوجود إسرائيل ، وأمنها ، وقوتها ، وأضيف إليها التعهد بألا تتقدم أمريكا بأية مقترحات في أية مفاوضات تجرى بين الأطراف إلا بعد أن تتفق في أمرها مع إسرائيل .. ثم أضيفت قائمة بتعهدات أخرى تمثل حواكم لفعل السياسة الأمريكية وقراراتها بشأن الصراع في المنطقة !!
2 ـ " تحقيق اعتراف العرب بقيامها ، باعتبار أن ذلك هو الضمان الشرعي الوحيد لبقائها ، وتستقر الشرعية حين يقدم الضعيف اعترافه بالأمر الواقع ، حتى وإن كان مفروضا عليه " .. وقد تحقق أيضا برعاية الولايات المتحدة الأمريكية لأول اتفاقية سلام بين أكبر دولة عربية " مصر" وإسرائيل ، ثم لحقتها المملكة الأردنية ، وأضيفت إليهما اعترافات بعلاقات ومكاتب اتصالات تجارية من المغرب وقطر وتونس وموريتالنيا !! )
والحاصل أنه بعد نحو خمسة وثلاثين عاما تقريبا من مؤتمر بلتيمور ، كان الهدفان قد تحققا وزيادة .. وقد أعطى العرب وقدموا من الدلائل والتأكيدات والتنازلات ما لم يكن يخطر على بال أحد من المشاركين في " مؤتمر بلتيمور" حتى في أكثر الأحلام جموحا وإغراقا في الخيال !!
.....
ومع حديث الماضي ، كان يهود العالم يعرفون الهدف والوسائل والمطلوب ، وكان يهود أمريكا هم الاحتياطي الاستراتيجي الحيوي للدولة الصهيونية ، وبعد أن تحولت الخيالات المحمومة لتحقيق (أسطورة العودة ) إلى حقائق على الأرض ، وأصبحت قوة ( الحلم ) الصهيوني هي الخطر الفعلي الذي نواجهه .. وكان " دايفيد بن جوريون " المؤسس الأول لدولة إسرائيل ، هو صاحب التعبير الصريح والواضح عن ( الحلم ) وكان قوله " الأرض واحدة ، وطالب الأرض اثنان ، ولابد أن تكون لواحد منهما فقط ، ولابد أن يكون الشعب الإسرائيلي ، هو هذا الواحد الذي يحصل على الأرض ويملكها ، والحل الوحيد بالنسبه له ، أن يسعى بكل الوسائل ، بما فيها القوة ، والسياسة ، وحتى الخديعة ، لكي يجعل الطرف الآخر يرضي بالتنازل عن مطلبه !! " .. وقد نشأت وترسخت في أذهان أصحاب الحلم أن من المحرمات والمحظورات ، التراجع عن حقوق الوعد المقدس ، حين قال الله لإبراهيم أنظر بعينيك من مكانك الذي أنت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، أنني سأعطيك أنت وذريتك إلى الأبد كل ما تراه من هذه البلاد .. ومعنى ذلك أن حق شعب إسرائيل في هذه الأرض ـ كل الأرض ـ لا يعتمد على رغبة أو قبول الآخرين بهذا الوضع أو قرارات الشرعية الدولية ، ولكنه حق أعطى كمنحة من الرب ، لذا فإن شعب إسرائيل ليس له حق في أرض إسرائيل ـ كل الأراضي ـ فقط ، بل عليه واجب تجاهها !!؟
و" الحلم " الصهيوني ، تخلى عن سواتره ، لتبدو الحقائق عارية ومجسدة أمامنا ، نحاول أن نسترها بما تم تصديره من مصطلح الفكر السياسي العربي " السلام هو خيارنا الاستراتيجي الوحيد " وفي حين أن إسرائيل دخلت معنا قاعات المفاوضات ليس فقط بالحلم ، وإنما بتحقيق هذا الحلم .. وهكذا أصبح أمامنا بدل القضية ، قضيتان :
• 1ـ قضية عملية السلام .. وزمنها مفتوح .. أي بصرف النظر عن عنصر الزمن ، فليس هناك توقيت مقدس كما يقولون !! وإسرائيل تتعامل مع قضية السلام من زاوية واحدة فقط لا غير ، وباعتبارها قضية أمن ووجود ، وهي محكومة بألف اعتبار واعتبار .. وإسرائيل ترى أن الظروف والأوضاع في العالم العربي غير مستقرة ، وأن المواقف والسياسات العربية ، هي رهن شرعية تواجد أصحابها من الحكام ، وإذا غابوا أو رحلوا قد تتبدل السياسات والمواقف ، ولذلك فإن الرهان على ما هو قائم نوع من المقامرة ، وهي لا تتحمل أي مغامرة في شئون تتصل بمستقبل وجودها .. حتى لو كان التصور العربي ـ الغالب ـ للسلام ، هو أن الحرب مستحيلة ، وليس هناك بديل إلا السلام ، بل ليس هناك بديل إلا أي سلام !! وحتى لو كان التصور الإسرائيلي للسلام ، ليس مستعدا لقبول دولة فلسطينية مستقلة على أي بقعة من أرض فلسطين ، وأن أقصى ما يمكن الوصول إليه ـ سياسيا ـ ما هو قائم في الضفة الغربية وغزة ، نوع من الإدارة الذاتية ، والتأكيد من عدم تحول الإدارة الذاتية إلى دولة فلسطينية مستقلة .. وهي الرؤية التي حذر منها " مناحيم بيغن " بأن قيام دولة فلسطين يعتبر نفيا لقيام دولة إسرائيل!!
• 2ـ قضية الأرض .. وما عليها يتم تغييره ، وإسرائيل لا تجد قيدا يحد من حريتها في إقامة مستعمرات جديدة في الضفة الغربية ، وتجري بسرعة مذهلة في شوط تهويد القدس ، وتفكيك قواعد المسجد الأقصى .. وهي تتصرف بالاحتلال على تراب ما تسميه ـ من وجهة نظرها ـ كامل أرض إسرائيل ، وكأن ما يجرى شأن داخلي فوق أرض مشروع الدولة ذاته !! خطوات متسارعة وإجراءات عملية على الأرض ، تعكس الرغبة العارمة بأن يعيش المشروع الصهيوني لحظة انتصاره : القدس الموحدة بعد الانتهاء من مخطط تهويدها بالكامل ، هي العاصمة التاريخية لإسرائيل وإلى الأبد .. ووضع نهاية لوجود المسجد الأقصى .. فلا معنى لتحقيق " الوعد المقدس " بدون القدس الموحدة .. ولا معنى للقدس اليهودية دون هيكل سليمان .. ولن يتم تدشين الهيكل الثالث مع وجود المسجد الأقصى !!
ولم يدقق العرب كثيرا في معنى ما يجرى ، رغم أن المقاصد واضحة ، ورغم أن ما يجرى لا يتم في الخفاء ، وقد أصبح المسجد الأقصى مكشوفا ينتظر مصيره ، وأن ما تبقى من القدس لن يصمد طويلا أمام حركة الضم والتهويد .. ولا نرى في الساحة حتى الآن ، أي أثر لحركة أو فعل ، وبعد أن أصبح العالم العربي ـ ولأسباب يطول شرحها ـ فاقدا لقدرته على الحركة والفعل إزاء عدوان فادح وخطير على الهوية العربية الإسلامية للقدس ، ويستهدف وجود المسجد الأقصى كرمز إسلامي مقدس ، والقائم حاليا فوق سراديب وأنفاق فارغة بالكامل ، وقد هيأت إسرائيل كل الظروف الممكنة لهدم الأقصى من خلال سلسلة من الحفريات التي يمكن أن تؤدي إلى انهياره في حال أي تأثير طبيعي أو صناعي .. وبسبب الفراغ الناشئ من الحفريات ، فإن أي ثقل أو وزن زائد يمكن أن يؤدي إلى انهيارات ، وبالتالي هدم للأبنية ـ وفقا لتقارير خبراء الآثار والمهندسين المعماريين العرب ـ وأن هذه الانهيارات لا تحتاج لكوارث طبيعية ضخمة لتقع ، فالأرض مهيأة للانهيار في ظل أي عامل طبيعي بسيط كالسيول التي تحمل الأتربة والحجارة معها !!
....
وقد يكون التساؤل الحائر والذي يفرض نفسه بكل مشاعر الحسرة والألم : هل يمكن أن نكون قد نسينا التاريخ ، وفقدنا الذاكرة إلى هذا الحد ؟! إن تاريخ أي أمة هو المؤثر الأكبر على ضميرها ، ولكن المشكلة عندما يكون الضمير عاريا ، فالأعصاب كلها عارية ، والأعصاب هي مكمن الإرادات ..
.....
واللافت للنظر أن " المسجد الأقصى " كان غائبا أو مغيبا بالاسم عن سطور القضية الفلسطينية ومنذ أول سطر فيها ، وفي هذا المناخ الذي اختلطت فيه النوايا بالخطط ، ما هو ظاهر منها وما هو مستور ، وإن كان تم إلحاقه ضمنا في قضية القدس .. ولكنه لم يكن غائبا بل كان هاجسا حاضرا ومنذ بدايات الحركة الصهيونية في ضمير الحلم الصهيوني ، وكانت الإشارة الأولى في مقولة تيودور هرتزل : "إذا حصلنا يوما على القدس وكنت لا أزال حيا وقادرا على القيام بأي شيء فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود فيها ، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها قرون " .. لم يكن المسجد الأقصى غائبا عن العقيدة الصهيونية ، بل تصدر مهام العقيدة بحلم إقامة الهيكل الثالث فوق أنقاضه !! ولم تتم الإشارة إلي المسجد الأقصى صراحة ، كرمز إسلامي مقدس ، ولا حتى كتراث إنساني يحمل الهوية العربية الإسلامية ، ولا بضرورات الحماية والصيانة ، وهناك مراجع كثيرة عن حركة الاتصالات واللقاءات والاجتماعات ـ السرية والعلنية ـ ومنذ بداية الثلاثينيات من القرن العشرين ، وهناك الوثائق الخاصة من برقيات ورسائل ومحاضر جلسات ، وهناك دراسات عن جولات الصراع العربي الإسرائيلي وقبل أن تبدأ الجولة العسكرية الأولى على ربى فلسطين 1948 ، وما بعدها من " حوارات السلام " في بداية العقد التاسع من القرن العشرين وفصولها المتعددة .. وفي مجملها لا توجد بها لمحات الصورة العامة عن " المسجد الأقصى " .. لا توجد أية إشارة في مسألة بهذه الخطورة ، كانت هناك فقط إشارة إلى " أن الأماكن الإسلامية يجب أن توضع تحت رقابة المسلمين " .. وحتى بعد السلام السهل الذي حصلت عليه إسرائيل ، بقى المسجد الأقصى مكشوفا عند ذروة الحظر ، ينتظر المدد العربي والإسلامي .. ولكن " الكل العربي " أو " المجموع الإسلامي " لم يكن متصلا على مسار الوعي ، بأبعاد المؤامرة ، وكأننا غير قادرين على فهم مايجرى ويحدث حول " الأقصى "، فوق الأرض ، وتحت الأرض ، وإذا فهمنا لانصدق ، وإذا صدقنا نخاف مما صدقناه ونهرب منه !!
ولم يعد أمامنا الآن إلا خيارين :
• إما أن ننظر إلى الحقيقة في عينها ، وتبدأ حركة الفعل لإنقاذ المسجد الأقصى ، وحمايته وتوفير إمكانيات وسبل الصيانة ، وعلى الأقل قبل الحديث عن فك أسره من الاحتلال الإسرائيلي ، وأمام المجتمع الإسلامي ـ ككل ـ ما هو متاح من الردع بالضغوط ، وتحديد استراتيجية إسلامية واضحة للمرحلة ، ووضع استراتيجية لا يعني تحديد الهدف فحسب ، بل يعني أيضا رصد موارد ، ورسم خطط ، وكفاءة تنفيذ تفتح الطريق إلى هدف إنقاذ الأقصى ..
• وإما أن نهرب من الحقيقة ، وننتظر الواقعة ، ولا أظنني أبالغ إذا قلت أننا لن ننتظر طويلا ، حتى يجد العالم الإسلامي نفسه وقد أيقظته حركة السقوط ، ولم تنبهه من قبل حركة الأفكار الزاحفة بإجراءات عملية على الأرض لتحقيق الهدف الصهيوني ومهام العقيدة ، بتدشين الهيكل على أنقاض الأقصى !! وقبل أن تقع الواقعة ، ربما تظهر في بعض اللحظات بوادر تنبه عربي ، يمتد إلى المحيط الإسلامي حوله ، ولكن نخشى أن تكون نوبات إهتمام تظهر بسرعة ثم يخفت أثرها بنفس السرعة التي ظهرت بها !!
....
والشواهد أمامنا تنبئ وتحذر ، حتى لو تنبهت الأمة إلى مخاطر ما يجري ، فإن الأمور تكون قد تجاوزت حدودها وحدودهم !!ّ
....
ومن المفارقات اللافتة للنظر :
• أن مهام العقيدة هي التي تحرك الزحف باتجاه المسجد الأقصى ، واستعجالا لتحقيق الحلم الصهيوني بإقامة " الهيكل " على أنقاض " الأٌقصى " .. وأن العنصر الديني هو الحاكم للفعل الإسرائيلي باتجاه تهويد " القدس الكبرى " العاصمة الأبدية لإسرائيل .. وكان المسجد الأقصى حاضرا في الحلم الصهيوني ، هدفا للإزالة ، وكان ولايزال قائما في وجدان المتربصين به ، شاهدا فوق هيكلهم ، وكابوسا فوق الصدور !! وكان ـ ولا يزال أيضا ـ لليمين الإسرائيلي المتطرف ، مع المتشددين من اليهود " السلفية اليهودية " دورا وتأثيرا فاعلا ، ويقولون طلبهم بوضوح .. وهذا ما يجري ويحدث !!
• وفي العالم الإسلامي ـ بصفة العموم ـ فإن المسجد الأقصى ، لايزال غائبا عن الوعي الديني بقدسية الرمز في " الأقصى " ، و على هامش الوعي بضرورات وأحكام المصلحة الإسلامية ، وكان التصور أن سلاح الدين يستطيع أن يقوم بدور المدفعية الثقيلة البعيدة المدى ، وأن يردع حتى الأحلام المتربصة بالقدس والأقصى ، في مهدها .. وارتفع سقف التصورات مع حركة المد الإسلامي باعتباره الوجه الآخر لعملية الانحسار القومي ، وأن كل العناصر ، وكل الشيع والفرق ، عليها أن تتحرك لحماية الأقصى والهوية الإسلامية العربية للقدس !! وإذا كان التيار القومي قد تراجع ــ وكانت حركته تستمد نبضها من أفكار ومبادئ وحتى شعارات تحرير الأرض والدفاع عن المقدسات ، وأصبحت الحلم الذي يشد كل الناس ويوحدهم ــ فإن التراجع القومي ، هو الذي جعل العنصر الديني يتقدم لكي يغطي التراجع والانحسار القومي ، وكان التصور ـ لدى البعض ـ أن الدين هو البديل لتراجع الحلم القومي .. ولكن " الاحلال " الذي جرت شواهده ، كان مجرد إحتماء بالدين ( المطلق ) لأن كل ما هو ( نسبي ) وإنساني إهتز أمامهم !!
• هناك .. كانت مهام العقيدة حيّة ومتحركة ومتيقظة ، وأمامها هدف واضح لا بديل عنه !!
• وهنا .. كانت مهام العقيدة مشتتة بأفكار تشطح بعيدا عن صحيح الفكر الإسلامي ، وعن فهم الشريعة في سياقها الصحيح .. وغاب " الأقصى " ومعه قضية القدس ، عن أولويات ما يمكن أن نطلق عليه فكر " الجماعات الإسلامية المتشددة " .. ولم يكن سلاح الدين ، لا مدفعية ثقيلة بعيدة المدى ، ولا حتى رصاص " فشنك " ، باستثناء الرياح العابرة التي تحمل شعارات وهتافات باتجاه المسجد الأقصى .. أي مجرد مشاعر دينية يتم التعبير عنها بالهتافات في كل مناسبة عابرة أو طارئة !!
لا
دعائم مدفعية ثقيلة بعيدة المدى تردع الأحلام الزاحفة باتجاه موقع وجدران الأقصى وحول " هوية القدس" وبمعنى " الحركة والفعل " من المد الإسلامي المتمثل في الجماعات والحركات والتنظيمات والقوى الإسلامية المندرجة غالبا تحت قائمة " الإسلام السياسي " ومعها المنظمات العنقودية التي ترفع شعار "الجهاد " .. بل كان صعود التيارات المتشددة كابوسا على مجتمعاتهم ، وبمقدار ما يقول به الشيخ محمد سعيد رسلان ــ أحد رموز التيار السلفي في مصرــ تصريح بتاريخ 23/1/2013 " بأنها لا تمثل الإسلام ، بل هم حرب على المسلمين ، وأن كثيرا من المسلمين اليوم يستحيون من إسلامهم لأن الآخرين أفلحوا في مساواة المسلم بالإرهابي ، وهذا ليس من فراغ بل هو بفعل أقوام منا ، هم أكثرمن الإرهابيين ، ومجرمون ، ويتخذون ظاهر السنة ، ويتمسكون بالدين وهم ليسوا من الإسلام في شيء ، وهؤلاء عار ووبال على الإسلام ويشوهون صورته ، وحرب على المسلمين وقسموا المسلمين لقسمين ( إسلاميين ، ومسلمين كفار علمانيين ) ، ولن تكون هناك من نتيجة سوى الاقتتال ، فالقسم الأول يحاربون جهادا في سبيل الله ، فيتقربون إلى الله بسفك الدماء وإزهاق الأروح ، والطرف الآخر يدافعون عن هويتهم وأنفسهم ، وقد يتطرفون إلى الكفر الصريح ، لكن يدفعهم إليه هؤلاء الإخوان والسلفيون " !!
....
والذين طالهم تصور أن " سلاح الدين " يحمي وينقذ الأقصى والقدس قبل إحلال " المشهد الأخير في المؤامرة الكبرى " قد فاتهم أن هناك جانبا من الصورة لم يكن غائبا ، وهو التوظيف الأمريكي المبكر للإسلاميين .. وهناك شواهد معلقة بالظنون .. ولنبدأ من الواقع ، وهو وحده نقطة البداية الصحيحة لأي استشكاف بعده :
• منذ منتصف الأربعينيات تواطأت الحكومات البريطانية المختلفة مع القوى الإسلامية الراديكالية ، ويقدم " مارك كرتيس " في كتابه " الشئون السرية " الذي صدر عام 2010 عشرات الأمثلة المدعومة بعشرات من الوثائق السرية التي تكشف عن العلاقة بين حركات الإسلام السياسي والمخابرات الأمريكية والبريطانية على امتداد أكثر من 60 عاما .. ويقول " كرتيس " أن ساسة بريطانيا كانوا يعتبرون الإسلاميين مفيدين من 5 أوجه ، أولها : تقويض العلمانية والتيارات القومية في العالم العربي وجنوب آسيا .. وثانيها : استخدامهم كـ "قوات صاعقة" لزعزعة استقرار الحكومات المناوئة .. وثالثها : العمل عند الضرورة كقوات عسكرية لخوض حروب نيابة عنها كما حدث في إندونيسيا في الخمسينيات ، وفي أفغانستان في الثمانينيات .. ورابعها : استخدامهم كـ "أدوات سياسية " لإحداث التغييرات من جانب الحكومات المستهدفة ، مثل إيران ، ضد محمد مصدق عام 1953 .. وخامسها : تقويض النظم القومية والعلمانية ودعم الأنظمة الموالية للغرب ، خصوصا في السعودية وباكستان .. ويركز " كرتيس " على باكستان التي يعتبر انفصالها عن الهند أحد أهم نقاط التحول في تاريخ الإسلام السياسي ، وترحيب ونستون تشرشل ، رئيس وزراء بريطانيا الشهير ، بدعوات بعض الإسلاميين بالاستقلال عن الهند ـ الذي كان أمرا غريبا وقتها ـ لأن باكستان في حقيقتها دولة صناعية ، ليس بها مقومات تحفظ وحدتها ، غير هويتها الإسلامية ، والبريطانيون كانوا يدركون ذلك جيدا ، لكن تشرشل رحب بانفصالها للاحتفاظ بجزء صغير من الهند ، التي اضطرت بريطانيا للرحيل عنها بعد استقلالها عام 1947 ولتحقيق هذا الهدف شجعت بريطانيا تيارات الإسلام المتشدد ورموزه، ومنهم أبو الأعلى المودودي صاحب نظرية " الحاكمية لله " التي تبناها لاحقا سيد قطب ، ولاحقا تعلمت الولايات المتحدة الأمريكية ــ خليفة بريطانيا في قيادة العالم ــ الدرس ووظفت الجهاديين في أفغانستان لضرب السوفيت .. ولم يقتصر دعم بريطانيا للإسلاميين على باكستان ، فدعمها للملكة العربية السعودية " الوهابية " أكثر وضوحا ، وكان الهدف من هذا الدعم ، الذي واصلته الولايات المتحدة لاحقا ، مكافحة " فيروس " القومية العربية " بعد صعود " عبد الناصر " وتأميمه قناة السويس ، وأدت السعودية دورها في رعاية الإخوان والسلفيين عقودا طويلة ، وأنفقت بين عامي 1970 و2007 نحو 50 مليار دولار لنشر " الوهابية " في جميع أنحاء العالم ، وهو ما وصفه أحد المراكز البحثية الأمريكية بـ " أكبر حملة دعائية في التاريخ " وجرت بمباركة ورضا بريطانيا والولايات المتحدة ، اللتين رأتا في أفكار الوهابين حائطا دفاعيا ضد أفكار " عبد الناصر " التي كانت تهدد مصالح الدولتين خصوصا في منابع النفط .
ويعرض الكتاب عشرات الأمثلة على استخدام الغرب للإسلاميين في تحقيق أجندتهم ، فحين حاول محمد مصدق ، رئيس آخر حكومة منتخبة ديمقراطيا في إيران ، تأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية ، قررت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، الإطاحة به عن طريق دعم ما وصفوه وقتها بـ "ديكتاتور مستعد لتسوية مسألة النفط بشروط معقولة " ، وكان الديكتاتور هو " آية الله سيد كاشاني " الذي نظم أتباعه المتشددون احتجاجات واسعة مهدت الطريق لانقلاب 1953 ، الذي جاء بالشاه الموالي للغرب ، وتتلمذ على يدي " كاشاني " آية الله الخميني ، الذي أطاح بالشاه عام 1979 ، وأقام دولة دينية قمعية حتى اليوم ، ومن الطريف أن الولايات المتحدة دعمت " الخميني " اعتقادا منها أنه زعيم إسلامي معتدل يمكن " التفاهم معه " حتى حين ظهر أن " الخوميني " خطر على مصالح الغرب ، سعت أمريكا لاستخدامه في تصفية اليسار في إيران التي كانت ومازالت تعتبره الخطر الأكبر على مصالحها !! وفي 1982 ، حصل البريطانيون على قائمة أعضاء الحزب الشيوعي الإيراني " توده " من عميل سوفيتي سابق يدعى " فلاديمير كوشكان " ، ومررت المخابرات البريطانية "M 16 " ووكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية " C I A " القائمة إلى طهران التي سارعت بحل الحزب وإعدام عشرات منهم وألقت القبض على أكثر من ألف شخص ، وتكرر السيناريو نفسه في إندونيسيا ، بصورة أبشع ، حين دعم الغرب الجماعات الإسلامية ، المدربة والمسلحة من قبل الجيش الإندونيسي لارتكاب مذبحة إندونيسيا الشهيرة ، التي راح ضحيتها نحو مليون شيوعي عام 1966 ، إلا أن أشهر صور التعاون بين الغرب والإسلاميين كانت في أفغانستان بعد غزو الروس لها عام 1979 ، وسعت الـ " CIA " والمخابرات الباكستانية ، في هذه الفترة ، للعمل بشكل وثيق مع تيارات إسلامية مختلفة ، ومنها إخوان باكستان المعروفون باسم " جماعة الإسلام " بهدف استنزاف " الجيش الأحمر " هناك ، وجعل هذا التعاون من الولايات المتحدة الأمريكية ، فيما بعد متهما بإطلاق شيطان الجهاد الإسلامي المسلح ، إلا أن كثيرا من السياسيين الأمريكان رأوا التعاون فكرة عبقرية لا يقلل منها وجود آثار جانبية مثل ميلاد تنظيم القاعدة ، وهو ما عبر عنه " زبيجنيو بريجنسكي " ، مستشار الرئيس كارتر لشئون الأمن القومي ، ذات مرة لصحيفة " نوفيل أوبزرفتوار " التي سألته : " هل تشعر بالندم على رعاية الجماعات الإسلامية أثناء حرب أفغانستان ؟ " فأجاب : كيف أندم على فكرة ممتازة ، وما أهمية مقارنة "طالبان" بـ "سقوط إمبراطورية الاتحاد السوفيتي " ؟! وما أهمية وجود بعض المسلمين الغاضبين مقارنة بتحرير وسط أوروبا وإنهاء الحرب الباردة ؟! ويقول " مارك كرتيس " في كتابه " الشئون السرية " إذا كان تحالف الإسلاميين والـ CIA في أفغانستان قصة معروفة ، فما لا يعرفه كثيرون أن بريطانيا والولايات المتحدة هما من سهلا لاحقا إيفاد كثير من هؤلاء المجاهدين للمشاركة في حروب البلقان وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آىسيا الوسطى والمناطق الإسلامية في الصين !!
• في عام 1986 تكشفت معالم استراتيجية أمريكية محورها " التنسيق مع الحركات الدينية " كإجراء وقائي ضد الشيوعية ، وقد أدار الرئيس الأمريكي الأسبق " رونالد ريغان " هذه السياسة التي مهد لها الرئيس الأمريكي " جيمي كارتر " والذي وضع بمعاونة مستشاره للأمن القومي " برجينسكي " إستراتيجية تقوم على " الإستفادة من الإنفجارات الدينية ، مهما كان نوعها " في العالم الثالث ودول أوروبا الشرقية ، لمواجهة المد الشيوعي ، وضمن تلك الاستراتيجية ، ترك شاه إيران يسقط ، وشجعت واشنطن البابا يوحنا الثاني للوصول إلى كرسي البابوية ، وتجلت الاستراتيجية الأمريكية في نشاط حركة " تضامن " البولونية ضد حكم "ياروزلسكي " ، وفعلت الاستراتيجية الأمريكية فعلها ، في بلاد مثل الفلبين ، وهاييتي، والسلفادور ، وغواتيمالا ، ولعبت الكنيسة دورا مباشرا في عملية تطهير وتكنيس مناطق النفوذ الأمريكي من الرؤساء الديكتاتوريين ، وتشجيع قيام جبهة ديمقراطية ، وفقا لرؤية السياسة الأمريكية !!
• وكان درس أفغانستان موحيا ، فقد جرى تعاون بين الولايات المتحدة وبين التيار الإسلامي بجبهته العريضة ، وكل منهما له أسبابه في الجهاد ضد الإلحاد الشيوعي في أفغانستان !! وخلق التعاون العملي بينهما نوعا من معاودة التفكير السياسي لتوظيف الإسلاميين في " مهام أخرى " وفقا لمتطلبات الاستراتيجية الأمريكية العليا ونظريات الأمن والمصالح !! وحتى إنقلب السحر على الساحر ، بإنفلات مجموعة المجاهدين العرب ( الذين وجدوا ساحة الجهاد في أفغانستان ، بعيدا جدا عن البيت العربي حيث المسجد الأقصى الأسير، والاحتلال والاغتصاب الإسرائيلي لأراضي عربية وإسلامية ، ولأن الجهاد كان موجها سياسيا بإرادة أمريكية ؟! ) ومع إنفلات مجموعة المجاهدين العرب ، بعيدا عن الرعاية والوصاية الأمريكية ، تم تأسيس تنظيم القاعدة .. وكانت إسرائيل بدورها ترى ـ وفقا للدراسات الصادرة عن مراكز أبحاث قريبة من المؤسسة العسكرية ـ " أن من مخاطر " القاعدة " أنها تمثل صداعا مزمنا للأمن الأمريكي ، وفي نفس الوقت ساهمت في ترسيخ مفهوم " الإرهاب الإسلامي " وهذه نقطة إيجابية !! " ..
• وفي كتابه " لعبة الشيطان .. كيف أطلقت أمريكا الأصولية الإسلامية ؟ " الصادر عام 2006 يقول مؤلفه روبرت دريفوس : هناك فصل غير مكتوب في تاريخ الحرب الباردة ، يتناول خطة أمريكا المجهولة لدعم وتمويل ـ سرا وأحيانا علنيا ـ الإسلاميين المتشددين ، هذه الخطة المجهولة ، التي نفذت على مدار 6 عقود ، مسئولة جزئيا عن ظهور الإرهاب الإسلامي كظاهرة في جميع أنحاء العالم ، بل إن إمبراطورية أمريكا في الشرق مصممة وتقوم على عدة إحداهما الإسلام السياسي .. ويضيف " دريفوس " في مقدمة كتابه الشهير : أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية عقودا في رعاية الإسلاميين ودعمهم والتلاعب بهم وخداعهم ، باستخدامهم كحلفاء لها في الحرب الباردة ، لكن السحر انقلب على الساحر بعد أن تحول هؤلاء الأئمة والملالي والدعاة لوحوش ، ليس فقط ضد الولايات المتحدة ، بل ضد حرية الفكر والعلوم الإنسانية ، وضد القومية واليسار وحقوق المرأة ، بعضهم إرهابيون ، لكن أكثرهم متعصبون لأفكار تعود للقرون الوسطى ويتمنون العودة للقرن السابع الميلادي ، وأنه خلال سنوات الحرب الباردة بين عامي 1945 و1991 ، لم يكن الاتحاد السوفيتي هو العدو الوحيد لأمريكا وحلفائها ، وسعت الولايات المتحدة لـ " شيطنة " وتجريح كل الأفكار والأيديولوجيات التي يمكن أن تهدد الأجندة الأمريكية والنفوذ الغربي مثل التيارات القومية والعلمانية والاشتراكية ، وكانت هذه الأفكار هي أيضا أكثر ما يخشاه الإسلاميون ، ويضرب الكتاب مثلا واضحا بتحالف الغرب مع الإسلاميين لضرب الحركات القومية في العالم العربي وإيران وتركيا والهند ، فالحركات القومية الناشئة في دول العالم الثالث كانت تهديدا كبيرا لمصالحها ، واتخذ هذا التهديد أشكالا مختلفة ، أشهرها جمال عبد الناصر الذي تواطأت بريطانيا والمخابرات الأمريكية مع الإخوان لاغتياله عام 1954 .. وفي محاولاتها لاحتواء هذه الأفكار في الخمسينيات تحالفت واشنطن مع المملكة العربية السعودية ، ووظف الأمريكان " الوهابية " للدفاع عن مصالحهم ، واتفقوا مع الملك سعود والأمير فيصل ـ لاحقا الملك فيصل ـ لتأسيس كتلة إسلامية من شمال أفريقيا إلى باكستان وأفغانستان ، وبالفعل مولت الأسرة السعودية مؤسسات كثيرة لنشر الوهابية ودعم جماعة الإخوان ، ومولت بناء المركز الإسلامي في جنيف 1961 ، ورابطة مسلمي العالم 1962 ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي 1969 ، وغيرها من المنظمات التي شكلت جوهر الإسلام السياسي في العالم . وفي السبعينيات ومع وفاة " عبد الناصر " وتراجع القومية العربية ، ظل الإسلاميون دعامة أساسية للعديد من الأنظمة الموالية للولايات المتحدة ، ومنها مصر في عهد الرئيس السادات الذي تحالف مع الإسلاميين للقضاء على " الناصريين " والتقرب من أمريكا التي قال إنها " تمتلك 99% من أوراق اللعبة السياسية " ..
• وفي كتابه الشهير " مسجد في ميونخ : النازيون ووكالة المخابرات المركزية وصعود الإخوان المسلمين في الغرب " كشف مؤلفه الصحفي الكندي إيان جونسون ، الحائز على جائزة بوليتزر، عن أبعاد أخرى لتحالف الإسلاميين والغرب الذي لم يقتصر حسب وثائق المؤلف ، على الولايات المتحدة وبريطانيا ، فالولايات المتحدة استثمرت وبنت على مخطط ألماني نازي بدأه "هتلر" أثناء الحرب العالمية الثانية ، لتوظيف الإسلاميين لضرب الاتحاد السوفيتي .. والقصة بإيجاز أن النازيين وجدوا أن عددا كبيرا من الجنود السوفيت ، الذين وقعوا في أسرهم ، مسلمون ساخطون على الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين ، وكارهون لنظامه ــ شارك بين 150 و300 ألف سوفيتي مسلم في الحرب العالمية الثانية ــ ففكروا في استخدام المسلمين كطابور خامس داخل الجمهوريات الروسية المسلمة ، وتولى هذه المهمة رجل يدعى " جيرهارد فون " الذي بدأ في رسم مخطط واسع لاستغلال الإسلاميين لصالح النازيين ، وبعد هزيمة ألمانيا واصل " فون " نشاطه المعادي للشيوعية .. ولم تنجح الشبكة التي كونها " فون " عسكريا في تهديد السوفيت ، لكنهم أثبتوا أنهم أكثر كفاءة في تنفيذ الأجندتين السياسية والدينية بعد أن تحولوا من جنود ، لـ "إسلاميين " ، وتحولت مدينة ميونخ ، بسبب وجود عدد كبير من المسلمين السوفيت فيها ، لمركز لهؤلاء الإسلاميين الذين انضم إليهم عدد من النازيين السابقين والمنظمات التابعة للمخابرات الأمريكية !! ويوضح " جونسون " في كتابه ، كيف استطاع الأمريكيون سرقة مشروع " شبكة فون مندى " وتسليمها للقيادي الإخواني سعيد رمضان لمساعدته في تكوين شبكة من التنظيمات الإسلامية بدعم من أمريكا وبريطانيا ، وتمويل سعودي ، لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفيتي في مصر ، وخطر عبد الناصر ، وكان مسجد جنيف ، تحول لاحقا للمركز الإسلامي في جنيف 1961 ، هو نواة هذا المشروع .. واتضح فيما بعد أن المركز الإسلامي كان مجرد بداية ، ففي عام 1962 ، ساعد سعيد رمضان في إنشاء " رابطة مسلمي العالم " التي أصبحت الجهاز العصبي المركزي للحركة الوهابية في العالم ، بتمويل سعودي سخي تكفّل بإرسال الدعاة ، والدعاية المطبوعة ، وتمويل بناء مساجد ومراكز وهابية مختلفة بطول شمال أفريقيا وآسيا الوسطى ، وحتى خارج العالم الإسلامي ..
• ويقول " جيل كيبل " الباحث الفرنسي المتخصص في تاريخ الإسلام السياسي ، ومؤلف كتاب "الجهاد : تعقب أصول الإسلام السياسي " أن من أدار هذه الرابطة إضافة للقيادي الإخواني سعيد رمضان ، علماء من المؤسسة الدينية السعودية ودعاة هنود من مدارس " ديوبند " التي أسسها " أبو الأعلى المودودي " وفي هذه المدارس تخرج لاحقا زعماء حركة طالبان الحالية في أفغانستان .. وفي عام 1970 ، بعد وفاة " عبد الناصر " ، قاد " سعيد رمضان " وفدا للإخوان ، نظمته ومولته السعودية ، للتوسط لدى السادات لإعادة إحياء الجماعة التي جرى حظرها عام 1954 ، حسب قول روبرت باير ، ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية ، وأن المملكة العربية السعودية لعبت دور المحلل للإخوان ، ووافق السادات الذي كان يرغب في التنصل من الروس والتخلص من الناصريين ، والتحالف مع الأمريكيين ، وانتشرت الحركة الإسلامية بصورة كبيرة في عهد السادات ، وسرعان ما ردت هذه الحركات الجميل للأمريكان والسعوديين بالجهاد ضد الروس في أفغانستان عام 1979 .
وسعيد رمضان ، هو الذراع اليمني لمؤسس جماعة الإخوان الشيخ حسن البنا ، وزوج إبنته، ووزير خارجية الجماعة ، الذي تولى تأسيس فروع الجماعة في الخارج والتنظيم الدولي للإخوان ، وبدأ الاهتمام العالمي بـ "رمضان " عام 1953 ، حين دعاه البيت الأبيض مع 5 أشخاص من دعاة وعلماء المسلمين من دول مختلفة للقاء مع الرئيس الأمريكي أيزنهاور ، وجاء اللقاء كجزء من مؤتمر إسلامي في الولايات المتحدة ، إلا أن وثيقة سرية أمريكية ، وقعت في يد " روبرت دريفوس " مؤلف كتاب " لعبة الشيطان .. كيف أطلقت أمريكا الأصولية الإسلامية " كشفت عن أن إدارة المعلومات الدولية ، التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية ـ وهي فرع له اتصال مباشر بوكالة المخابرات المركزية ـ هي الجهة التي نظمت المؤتمر وتكفلت بتكاليف نقل هؤلاء الدعاة والعلماء من مصر والبحرين ولبنان والهند وبلدان أخرى ، التي بلغت 25 ألف دولار خلاف مصاريف إضافية تكفلت بها شركمة " أرامكو " السعودية الأمريكية .. وطبقا للوثيقة نفسها ، وتصنيفها " سري .. معلومات أمنية " فإن هدف المؤتمر ، في الظاهر مجرد تجمع علمي بحت ، إلا أن الهدف الحقيقي هو " تجميع عدد من الأشخاص ، من ذوي النفوذ في تشكيل الرأي العام في البلاد الإسلامية في قطاعات مختلفة مثل التعليم والعلم والقانون والفلسفة ، ما يعزز بشكل غير مباشر النفوذ السياسي للولايات المتحدة في المنطقة " ، ومن بين الأهداف المتوقعة للمؤتمر خلق قوة دافعة لحركة النهضة الإسلامية .. وهناك شيء واحد مؤكد ، حسب مؤلف " لعبة الشيطان " روبرت دريفوس ، هو أن الغرب ولعقود طويلة فضل التحالف مع الإسلاميين لضرب الحركات القومية واليسارية ، وحتى بعد 11 سبتمبر 2001، كان التغيير الرئيسي لدى دول الغرب هو التحالف مع الإسلاميين الذين لا يرفعون السلاح ، وأن واشنطن وجدت في الإسلام السياسي شريكا مريحا خلال كل مرحلة من مراحل بناء الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط !!
• ومع إتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى إغراق المنطقة في بحر من الخلافات المذهبية "إسلامية ـ إسلامية " أي بين السنة والشيعة ، فإنها كانت بحاجة إلى سند سني يشارك معها بإسم السنة في التصدي لإيران الشيعية ، وبالفعل فإن هذه المهمة عهد بها في البداية إلى حلف مصري سعودي ، ولكن هذا الحلف لم يستطع أن يمضي في المعركة بنجاح ، ولذلك جرى البحث عن شريك آخر أكثر فاعلية ، وأكثر تنظيما ، وأكثر مصداقية ، وبالطبع لم يكن بعيدا عن هذا التوجه ، أن رفعت الولايات المتحدة حظرا سياسيا كانت تفرضه على الإخوان المسلمين ، في سنوات المعركة ضد الإرهاب الإسلامي ، والاعتراف الأمريكي بالإخوان المسلمين ، لم يجئ قبولا بحق لهم ، ولا تقديرا تجلت دواعيه فجأة أمام المعترفين ، ولكنه جاء قبولا ـ ولو جزئيا ـ بنصيحة عدد من المستشرقين ، بينهم " برنارد لويس " بأن يستكمل عزل إيران في العالم العربي والإسلامي بالفتنة المذهبية ، وتغيير طبيعة الصراع الرئيسي في المنطقة من كونه " عربيا ـ إسرائيليا " حتى يصبح " عربيا ـ فارسيا " وبالاعتماد على تجمعات جماهير من السنة تواجه تجمعات جماهير من الشيعة ، وبالتالي تصبح المواجهة مع إيران مزدوجة التأثير ، مواجهة على مستوى دولة ودولة ، ومواجهة على مستوى الجماهير ، بين سنة وشيعة !! وبهذا القصد طرأت مسألة الاعتراف الأمريكي بالإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 ، وباعتباره تنظيما سنيا نشطا ، وأنه من المفيد أن يكون للإخوان السنة دور على مستوى الشارع العربي في مواجهة مع الشيعة في قلبه !!
.....
.....
وبالطبع فإن أي رهان كان قائما على سلاح الدين ، متمثلا في التنظيمات والجماعات والفصائل الإسلامية ، لإنقاذ الأقصى والقدس ، يعد ضربا من الوهم !!
.....
.....
• وفوق ما تقدم كله .. كان هاجس الولايات المتحدة الأمريكية ، وعبر عنه بوضوح وعمق وزير الخارجية الأمريكية الأسبق " هنري كيسنجر " ، وكان هناك غيره أيضا من رأوا خطورة فكرة " تيار القومية العربية " والحركة التاريخية لهذا التيار ، وتجسيدها في مصر ، وقد حاول من سبق " كيسنجر " إلى رؤية هذا الخطر ، أن يعزلوا الفكرة ، ويعترضوا التيار والحركة !! وحتى بعد أن نجح " كيسنجر " في عزل مصر عن الفكرة والتيار القومي ، فإن الهاجس بقى قائما ، وأن الحل هو ضرب التيار القومي العربي من الداخل ، من الذين يرون أن القومية العربية تتعارض مع عقيدة الأمة الإسلامية ، وأن من صاغوا تعبير القومية العربية كان هدفهم ضرب وحدة أمة الإسلام !! وأن التيار الإسلامي كفيل بالتصدي للفكرة والتيار .. ووفقا للاستراتيجية الأمريكية التي أدارها " ريغان " ووضعها قبله الرئيس الأمريكي الأسبق " كارتر" بالاستفادة من الإنفجارات الدينية مهما كان نوعها ، فقد كان المد الإسلامي هو الوجه الآخر لعملية الإنحسار العربي القومي ، وأن يتقدم العنصر الديني لكي يحل محل التراجع القومي !! والحاصل أن الولايات المتحدة تحركت وقبل أن يفلت " المد الإسلامي " من يدها ، أو أن يخرج من تحت أعينها ، ومن دائرة الرصد والمتابعة .. وهكذا كان الاختراق بوسائل الاتصال المباشر وغير المباشر ، أمرا طبيعيا ومتوقعا ، بل ومشروعا ضمن إستراتيجية التنسيق مع الحركات الدينية ، لتوظيف حركة المد الإسلامي ـ أو ما أطلق عليه " الإنفجارات الدينية " كما جاء وصفها في الاستراتيجية الأمريكية !!
وقد يبدو الأمر متلبسا ـ أمام البعض ـ شأن غيره من الأمور في ظل مناخ تداعيات حركة الانتفاضات الشعبية العربية ( ما أطلق عليه الربيع العربي ) ، وحيث تشير الشواهد إلى التقارب الأمريكي باتجاه التيار الإسلامي السياسي ، بالاعتراف والدعم والمساندة ، ومن ليبيا ، إلى مصر وتونس ، وحتى ما يجري في سوريا بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في "درعا " جنوبا على الحدود مع الأردن ، ثم فتحت
" هبة " درعا الأبواب أمام صراع داخلي يقاتل فيه " مجاهدون " مسلمون من أفغانستان وحتى البوسنة ومرورا بفرنسا وتركيا ، وغيرها من دول إسلامية وعربية ، بعد مصر وتونس وموريتانيا !! وقد بدت ملامح عصر مختلف ، لاحت بوادره فعلا من خلال ضباب زادت كثافته ، والظروف كلها في حالة سيولة .. ويبدو أيضا أنه ليست فقط المآسي الأغريقية هي التي كانت أقدار نهائية لا ترد في الأساطير ، ولكن المخططات الأمريكية كذلك !!
.....
.....
وبالطبع كانت قضية " القدس ـ الأقصى " غائبة تماما عن مفهوم الجهاد ، وعن تحركات "المجاهدين".. وبالضرورة كانت القضية غائبة عن سلاح الدين متمثلا في تيار الإسلام السياسي !!
.....
.....
• وليس بعيدا عن ذلك المسار ، هناك إضافة تقف معه ـ تقريبا ـ على خط عرض واحد .. ولا أدري كيف تتيح ثورات الربيع العربي لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ، فرصة للنهوض بأهدافهما المشتركة في تعزيز الأمن ودعائم الاستقرار والديمقراطية في المنطفة ، وأن تمنح ثورات الربيع أمريكا وإسرائيل فرصة مؤكدة على الصداقة بين واشنطن وتل أبيب ( تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون عقب لقائها مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في 16/7/2012 وبعد ساعات من لقائها بالرئيس المصري محمد مرسي ) وكأن رياح الثورات العربية التي فتحت الطريق أمام قوى التيار الإسلامي للصعود إلى قمم الهرم السياسي ، قد فتحت معها في نفس الوقت " ملفات التغيير " في العلاقة الملتبسة بين الإسلاميين وواشنطن وتل أبيب ؟!! ورغم أن الربيع العربي لم يكن ربيعا إسلاميا ، أي لم يكن " متأسلما " ولم تكن فكرة الثورات التي مهدت الطريق للإسلاميين ، لم تكن مرجعيتها دينية ، فالإيمان بالله في قلوب الناس على اختلاف أديانهم ، ولم يقع الحدث الأكبر في تونس ومصر وليبيا واليمن ، تحت أعلام الإسلاميين ، ولا استجابة لشعاراتهم ، وإنما كانت فكرة الثورة اجتماعية ، اقتصادية ، وثقافية ، ورفعت شعار كرامة الوطن بالخروج من دائرة التبعية والوصاية الأمريكية !!
• ويبدو أن ما حدث في إقليمنا العربي ، هو أن أنظمة فاسدة مستبدة ، قد أزيحت ، وهي تستحق .. وأنظمة مستجدة ، بدأت خطواتها الأولى باسم شعوبها ، تجاه إثبات حسن النوايا للولايات المتحدة وإسرائيل ، وليس لها الحق !! ويبدو أيضا ، أن ملفات خطيرة تستبعد ، وملفات أخطر تستحضر ، ومصالح توزع !! وقد كان الإسلاميون على قدر كبير من الاقتناع بأن الضغوط الخارجية لن تسمح بوجود ريئس ينتمي لتيار إسلامي ، ولن يقبل الخارج برئيس إسلامي ( تصريح المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع في 14/1/2012 ) ولذلك لم يتأخر الإسلاميون عن شن " هجوم ناعم " لطمأنة واشنطن واستعادة الثقة ، وبدأت الوفود الإسلامية من دول الربيع العربي ، تشد الرحال إلى واشنطن ، وتدعو الرئيس الأمريكي " أوباما " لفتح فصل جديد من العلاقات ، وسعى حزب النهضة التونسي ( إخواني ) وجماعة الإخوان المسلمين في مصر ، ومنذ وقت مبكر ، إلى التفاوض مع أوروبا والولايات المتحدة ، وبعثوا وفودا كثيرة إلى عواصم الغرب !!
• وليس سرا ، أن الإدارة الأمريكية ، ومراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية وفي المقدمة ، معهد " كارنجي للسلام " والتي عقدت لقاءات مع وفود إسلامية من مصر وتونس وليبيا والمغرب ، قد طرحت سؤالا واحدا إجباريا : ماذا عن إسرائيل ، وموقفكم من إيران ؟! وكانت الإدارة الأمريكية أكثر وضوحا وتحديدا ، بالإشارة إلى مطلبها الرئيسي ( لا تقتربوا من إسرائيل ) .. المعاهدات والاتفاقيات مقدسة ، والسلام استراتيجي وحتمي ، ولن نقبل بزعزعة الاستقرار في المنطقة .. وبالطبع لم يطرح أحد من الإسلاميين ، سؤالا واحدا عن مصير القدس والأقصى ، ولا حتى عن مخاوف التيار الإسلامي السياسي ، بشأن مستقبل القدس الشريف ، وحماية الأقصى!!
....
....
ثم وجد البعض بارقة أمل قد تلحق بمستقبل القدس والمسجد الأقصى ، أو قد تحد من سرعة حركة المتغيرات على وجه الأرض ، وما يحاك ضد الأقصى وهوية القدس ، أو ربما تساهم في تقليص حجم العمليات الإنشائية الاستيطانية في الضفة الغربية ( دون تجميدها ) وربما يلحق المسجد الأقصى في اللحظة الأخيرة بمفاوضات قادمة ، وباعتبار أن حصول فلسطين على صفة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة في 29 نوفمبر 2012 يمثل بداية حقيقية لرفع الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني .. وأن الفلسطينيين بعد أن تمكنوا من نزع اعتراف عالمي واسع عبر نيل وضع " دولة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة "، فإن شعبهم وأراضيهم على حدود 1967 ، سوف تقع رسميا تحت الاحتلال ، وأن المستوطنات ، والجدار العازل ، وكل الإجراءات الإسرائيلية الهادفة إلى قضم مساحة الدولة الفلسطينية وقطع تواصلها الجغرافي والسكاني ، ما هي إلا تدابير تقوم بها دولة الإحتلال ، ويستتبع ذلك الأمر ، أي إقرار الدولة الفلسطينية ، تغير الإطار القانوني للعلاقات التفاوضية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ، فكثيرا ما دخلت إسرائيل في مساومة تفاوضية منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام ، وانطلاق عملية أوسلو في مطلع التسعينيات ، تقوم على أن الأراضي على حدود 1967 هي مناطق متنازع عليها ، وهو فرض لم يكن له أي أساس من الصحة ، فهذه الأراضي أراض فلسطينية لا يجوز المساومة عليها ، وإن تحول المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل في الضفة الغربية ، بما فيها القدس ، من أراض متنازع عليها ، إلى أراض محتلة وفقا للقانون الدولي ، من شأنه بالتالي أن يدفع الفلسطينيين إلى تجاوز مسار المفاوضات ، أو التصلب فيها على قاعدة أن ما منحتهم إياه الشرعية الدولية من حقوق سيادية على صعيد المسائل الجوهرية تحديدا ( الحدود ، العاصمة ، عدم شرعية المستوطنات ) لم يعد مجالا للمساومة مرة جديدة على طاولة التفاوض ..
ولكن نزعة التفاؤل هنا ، تتحسب جيدا لثوابت إسرائيلية ضد أية قرارات تحمل الشرعية الدولية .. والشواهد على مسار تاريخ القضية الفلسطينية تؤكد ذلك ، بل وتكشف عن نزعات تفاؤل أخرى طالما داعبت مخيلة العرب والفلسطينيين على مسار مفاوضات " عملية السلام " ولم يتحقق شيئ سوى المزيد من المستعمرات الاستيطانية !! وأن استمرار توسع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالضفة الغربية ــ وكما يرى المفوض الأممي للوضع في غزة " ريتشارد فولك " ــ يجعل من المستحيل فعليا وعمليا أن تقام دولة فلسطينية مستقلة حقيقية ذات أرض وسيادة وقابلة للحياة ، لأن ببساطة فإن أحدا لا يستطيع أن يزحزح كل هؤلاء المستوطنين الذين تم جلبهم من أقاصي العالم ليقيموا في هذه الأرض المحتلة " !!
والرجل القانوني المتزمت في دفاعه عن الحق ، وهو الأمريكي الجنسية ، يهودي الديانة " ريتشارد فولك " ارتبط إسمه بتصريحات حادة ضد الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، فتم رفع إسمه من قائمة أعضاء مجلس إدارة واحدة من أهم المنظمات الحقوقية الدولية ، ثم عايش الواقع الفلسطيني كمفوض أممي للوضع في غزة ، وهو صاحب تقرير إدانة إسرائيل ، وعداونها على غزة "عملية الرصاص المصبوب " مع نهايات ديسمبر 2008 واستمرت لثلاثة أسابيع .. الرجل الثمانيني لم تروق له الرؤية التي ذكرتها عن نزعة التفاؤل لدى البعض بعد منح فلسطين صفة " دولة مراقب غير عضو " في الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 138 دولة ، وامتناع 41 دولة ، ورفض 9 دول في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل .. وهو لا يرى أي نزعة تفاؤل لإمكانية تغيير الأوضاع .. وقال " حديث الدولة الفلسطينية هو حديث يطول أمره ، وتطول الأزمنة قبل أن يتحقق ــ إذا كان لذلك فعلا من سبيل ــ فالأمر معقد للغاية ، لأن المجتمع الدولي ، والذي منح السلطة الفلسطينية مؤخرا موافقة رمزية أكثر من أي شيئ آخر ، على عضوية غير كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة ، لا يبدو مستعدا لاتخاذ اللازم من الإجراءات ليكون للفلسطينيين دولة فعلية ، وإن ما يسعى العالم له الآن هو بالأساس التركيز على الرمزيات ، في وقت لا توجد فيه النية للتفاعل مع حقيقة الوضع على الأرض ، وإسرائيل غير راغبة في أن يحصل الفلسطينيين على تلك الدولة القابلة للحياة ، بل واحدا في المجتمع الدولي غير راغب في الضغط على إسرائيل ، وكما أن العالم العربي بعد تلك التغيرات التي طرأت بعد الربيع العربي ، غير قادر على تغيير الأوضاع في المنطقة ، كما أن إسرائيل نجحت في أن تحيد بأنظار العالم والمنطقة عن ملف الدولة الفلسطينية بذلك الحديث اللانهائي عن الخطر الإيراني وعن عزمها مجابهة ذلك الخطر عسكريا " !!
.....
.....
ويظل هناك سؤال معلق وهو : إلى متى نترقب " المشهد الأخير في المؤامرة الكبرى " وأمامنا المقدمات ، وشواهدها القائمة ، وعملياتها التي تتدافع في تلاحق لا يحده شيء ؟! إلى متى ينتظر المسجد الأقصى المدد العربي والإسلامي قبل انهياره ؟! وخطة التنفيذ تجري وكأن العالم الإسلامي ليس واعيا لها ، وحتى في لحظات الوعي فهو يبدو وكأنه غير قادر على مواجهتها .. لا بسلاح السلام ، ولا بسلاح الدين .. فضلا عن أن واقع الأمة الإسلامية يشير إلى أنها لاهية بهمومها وشئونها الخاصة ، وتعاني من تناقض غائر إلى الأعماق ، لأنه مذهبي ، عقائدي ، إقتصادي ، إجتماعي ، سياسي ، عسكري ، وكل ذلك في نفس الوقت !! وحتى الأطراف الدولية المهتمة بالشرق الأوسط ، وإقليمنا العربي وموقعة ، وما فيه من موارد استراتيجية واقتصادية ، تتابع بدون اهتمام ما يجري حول وتحت المسجد الأقصى ، وكأنه " شأن داخلي " إسرائيلي ، أو على الأقل أحد عوارض قضية القدس وتهويدها ، وهي قضية شائكة ومعقدة بما فرضته إسرائيل عليهم من محظورات، وخطوط حمراء !! وحتى لو صدر عن الأطراف الدولية ما يبدو اهتماما ، فإنه بغير قدرة على الفعل ، وكأن ما يجرى ويحدث لا يختلف كثيرا عن غيره من شئون المستوطنات التي لم تتوقف إنشاءاتها يوما ، وعلى هامش بيانات سياسية " مقبولة " بين وقت وآخر ، وهي مجاملات دبلوماسية ظاهرة ، بالرفض والتنديد والاستنكار ، ولا تلتفت إلى أبعد من هذا ، إلى النقطة الحرجة ، بأن انهيار المسجد الأقصى ، سوف يكون لحظة فاصلة في تاريخ المنطقة ، والعالمين العربي والإسلامي .. وكل المحاذير قائمة ، لايستطيع أحد أن يحسب مداها أو حجم تأثيرها وسرعته !!
ويبدو أننا عاجزون بالفعل عن رؤية المدى الذي يمكن أن تصل إليه عمليات الحفر والتنقيب أسفل المسجد الأقصى ، وعمليات التهويد الملامسة لجدرانه ، والمحيطة به في الإطار الأوسع للقدس الكبرى .. وكأن المخاطر المتربصة بالأقصى تحوم كنوازل القدر ، يتحسب الناس وقوعها ولا يملكون ردها !!
.....
.....
وقبل أن تقع الواقعة ، والبدايات دائما تشير إلى النهايات ــ كما يقولون ــ فإن من حقنا أن نتساءل : إذا إنهار المسجد الأقصى ، كيف يتصرف العرب ؟ وكيف يتصرف المسلمون ؟ وما هي حدود ردود الفعل في الغرب ؟! وإن كان على المجهول ـ وحده ـ أن يرد على تلك الأسئلة !!
.....
ويبقى الأمل مدفونا تحت ركام طويل مأساوي في معظم ظروفه !!
..........