القاهرة 14 يوليو 2014 الساعة 01:33 م 

هل أقول لها

أن ننحني للرياح بهذا الزمان

فتلك كياسة ..

ستقول إذن

لا أريد وطن

ولا تفسدوا دمنا بالسياسة

الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله

هناك مسألة لابد من الالتفات إليها ، وبعد أن طرأ ما يدعو إلى الإجابة على هذا السؤال : لماذا كان مطلوبا الآن الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية ؟! لقد آن أن نفهم ما فهمه قادة إسرائيل منذ زمن طويل عن " المسألة اليهودية " .. وقبل أن تطل الأمة على مشهد جديد في الصراع العربي ـ الإسرائيلي ، والعودة إلى المربع صفر ، بإعادة الصراع إلى ساحة صدام الحقوق مع الأساطير والعقد المستحكمة فيها ، والإتجاه إلى مساقط خطرة وفقا لتصورات السلام مع الدولة اليهودية .. وبالضرورة فإن هذه التصورات وبنظرتها الإجمالية للأمور تريد حلا للأزمة يتوافق مع أحكام الأمن والوجود للكيان اليهودي ، ومع مطالب الأمان النفسي والمادي ؟! وأن تكون " يهودية الدولة " هي المداخل والمخارج على كل المجالات المتاحة أمام مفاوضات السلام ، وأن تتواصل وتتداعى فصول قصة " عملية السلام " وحتى النهايات المقدرة لها ، على أساس " الوطن القومي لليهود " وعلى تضاريس أرض الواقع الذي تجرى حركتهم عليه !! 

وعودة "المسألة اليهودية" إلى الواجهة ليست مجرد مشروع قانون تقدم به وزير الشؤون الإستراتيجية وقتئذ ـ ووزير خارجية إسرائيل فيما بعد ـ " إفيجدور ليبرمان " رئيس كتلة "إسرائيل بيتنا" إلى الكنيست الإسرائيلي ـ 19/11/2007 ـ وبالتنسيق مع كتلتي ليكود والإتحاد الوطني "مفدال" ، بشرط الاعتراف بيهودية إسرائيل قبل أي مفاوضات مع الفلسطينيين والعرب .. وإنما هي أول تقنين إسرائيلي لمسمى "الدولة اليهودية" ، وهي في الأصل تعبيرات عن ضرورات وحدود وأصول قد تلامس حدود " القداسة" التي تفرض أحكامها بالروادع !! 

وحكاية "الدولة اليهودية" .. قصة طويلة ومتواصلة ومعقدة بالخفايا والخبايا ، ومنذ بدايات اللعب على الوتر الديني اليهودي وأساطيره ، لتكون فلسطين وطن اليهود الموعود والمختار !! والثابت تاريخيا أن حكم بني إسرائيل لم يدم في فلسطين أكثر من 160 سنة في الأربعة آلاف سنة الأخيرة ، فبعد موت سليمان ـ عليه السلام ـ بدأت مملكة داود في التحلل ولم تدم سوى 73 عاما ، وهناك ما يقرب من تسعين عاما أخرى حكمها المكابيون من بني إسرائيل ، أما بقية الفترات فقد حكمها الرومان والعرب ، وعاشت الأديان الثلاثة على أرضها ..

 وبصرف النظر عن الأساطير والعقائد ، وبصرف النظر عن قضية ديانة ووطن قومي لأتباعها .. فإن الظروف والأجواء التي أحاطت بطرح مسمى "الدولة اليهودية" ، إختلطت فيها النوايا والخطط ، ماهو ظاهر منها ، وماهو مستور ، ومن أطروحات ومبادرات ومقترحات على مسارات متقاطعة للمفاوضات من أجل السلام بإتجاه ما يوصف بالحل النهائي للصراع العربي الإسرائيلي ، ومرورا بما يجري من عمليات سطو متواصلة وتغيير في خريطة ما تبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة .. وكأن إسرائيل قد تنبهت فجأة إلى مسألة الدولة اليهودية !! 

والحاصل .. أن الاجتماع السياسي في المدينة الأمريكية "أنابوليس" ـ أو مؤتمر أنابوليس للسلام 27/11/2007 ـ كان شاهدا على التلميحات والتصريحات التي دفعت أمامها بمسمى " الدولة اليهودية " .. والمعنى والمغزى أن إسرائيل يحق لها أن ترفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى نطاقها ، ولكن إلى دولة فلسطين ، وفي إطار رؤية المباحثات والمفاوضات حول الدولتين : دولة إسرائيل " دولة الشعب اليهودي " ودولة فلسطين  "دولة الشعب الفلسطيني " وعلى هذا الأساس فإن إسرائيل لن تتفاوض على أمر بات بديهيا ( مسألة اللاجئين الفلسطينيين ) !! والإعتراف بالدولة اليهودية ، ومن وجهة نظر عدد كبير من السياسيين والمؤرخين الإسرائيليين ، هو إعتراف عربي مباشر ـ وبأثر رجعي ـ بوعد بلفور 1917 والذي منح إقامة وطن قومي للشعب اليهودي على أرض فلسطين !! واعتراف عربي ـ وبأثر رجعي أيضا ـ بقرار التقسيم رقم 181 ـ 2 عام 1947 والذي يقضي بإقامة دولة يهودية إلى جانب دولة عربية !! رغم أن تسمية الشعب اليهودي في وعد بلفور أو على متن قرار التقسيم ، جاء بحكم عدم وجود إسم للدولة العبرية في ذلك الوقت ، وقبل إقامة دولة إسرائيل عام 1948 ، أي قبل أن يعترف من أعطى الوعد أو من صاغ القرار، بإسم إسرائيل!! 

.....

وليس مفهوما على النحو الصحيح ماذا يقصدون الآن بالإعتراف بالدولة اليهودية ؟! وهل المقصود مصطلح ديني تأسس على مفردات إيمانية ،يمنح التميز لأقلية بالحفاظ على النقاء اليهودي ؟! هل المقصود مصطلح " سياسي عقائدي" وفي سياق متصل باللعب على الوتر الديني اليهودي ، أو إختلاط الديانات مع السياسات ؟! بالطبع .. المسألة بعيدة تماما عن أية أصول أو مرجعيات دينية ، أو على الأقل من وجهة نظر جمعية " حاخامات ضد الصهيونية " الأمريكية ، والذين لفتوا الأنظار بملابسهم السوداء ، وقباعاتهم المميزة ، وضفائرهم المجدولة على الجانبين ، وهم يقفون أمام سور البيت الأبيض ، رافعين لافتات إحتجاج ضد إستخدام سلاح الدين ، أو طرح شعارات الدولة اليهودية ، لمداعبة مشاعر اليهود لتحقيق مطامع صهيونية !! 

ومعنى هذا الاعتراف في تركيبته العامة : أن مسمى الدولة اليهودية عودة إلى الجذور الصهيونية لتأسيس كيان الدولة اليهودية .. والصهيونية من بدايتها حركة سياسية في الحقيقة ( الصهيونية السياسية ) ولكنها تقنعت منذ اللحظة الأولى بالدين ( الصهيونية العاطفية ) لتخلق من رؤيا العودة إلى أرض الميعاد ، أيديولوجية تاريخية ودينية تجمع يهود الشتات حولها !! والمعروف أنه ليس هناك جنسا يهوديا .. وكما يقول عالمنا الجليل الراحل دكتور جمال حمدان : " أن هناك "يهودين " في التاريخ ، قدامى ومحدثين ، وليس بينهما أي صلة أنثروبولوجية مذكورة ، ذلك أن يهود التوراة بعد الخروج تعرضوا لظاهرتين أساسيتين طوال 20 قرنا من الشتات في المهجر : خروج أعداد ضخمة منهم بالتحول إلى غير اليهودية ، ودخول أفواج لا تقل ضخامة في اليهودية من كل أجناس المهجر ، وإقترن هذا بتزاوج وإختلاط دموي بعيد المدى ، إنتهى بالجسم الأساسي من اليهود المحدثين إلى أن يكونوا شيئا مختلفا كلية عن اليهود القدامى ، ورغم أن اليهودية ليست ولا يمكن أن تكون قومية بأي مفهوم سياسي سليم ، ورغم أن اليهود ليسوا عنصرا جنسيا في أي معنى ، بل جماع ومتحف حيّ بكل أخلاط الأجناس في العالم ، كما يدرك أي أنثروبولوجي ، فإن فرضهم لأنفسهم كأمة مزعومة مدعية ، يجعل منهم ومن الصهيونية حركة عنصرية أساسا ، وذلك بكل معنى العنصرية من إستعلاء وتعصب وإضطهاد ودموية ، وهي عنصرية بيضاء نازية ، فهي تعد نفسها " الشعب المختار" على غرار  "ألمانيا فوق الجميع " أيام الهتلرية ، وأن وجود إسرائيل منذ نشأتها يحمل كل ملامح العنصرية النازية ،  وإن كانت تختلف بطرد السكان الأصليين خارجها تماما ، ليتحولوا إلى لاجئين مقتلعين معلقين على حدودها.." !!  وهذا ما حدث ويحدث بالفعل ، ومنذ بدايات الخطوة الأولى في قصة تأسيس المشروع الصهيوني فوق الجغرافية الفلسطينية !! 

وتتفق نظرية الدكتور جمال حمدان مع الدراسة التاريخية المتعمقة للمؤرخ الإسرائيلي " شلومو ساند " أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة تل أبيب ، والذي استطاع عبر كتابه الأشهر " اختراع الشعب اليهودي" أو " متى وكيف اخترع الشعب اليهودي " أن يكشف زيف فكرة القومية اليهودية ، فهو يرى أن  "الشعب اليهودي آت من الكتاب المقدس ، بمعنى أنه شىء خيالي تم اختراعه بأثر رجعي " ..  ويقول  "ساند " :  أنا مثل بقية الإسرائيليين اعتقدت بأن اليهود كانوا شعبا يعيشون في يهودا ، وأن الرومان نفوهم عام 70 ، ولكن عندما بدات أنظر إلى الأدلة اكتشفت أن النفي هو أسطورة ، حيث لم أجد أي كتاب تاريخي يصف أحداث النفي ، وأن السبب في ذلك هو كون الرومان لم ينفوا أي شعب من فلسطين ، وأن معظم اليهود في فلسطين كانوا فلاحين ، وكل الأدلة تشير إلى أنهم مكثوا على أراضيهم ، أما فكرة الشعب اليهودي أو القومية اليهودية التي بنيت على أساسها الصهيونية ، وأنشأت دولة إسرائيل ، فهي أسطورة اخترعت منذ نحو قرن واحد .. "   إذن من يكون اليهود الموجودون اليوم بإسرائيل ؟ وما حقيقة الرابطة الإثينية والبيولوجية التي يعتقدون أنها تجمعهم ؟ ! هذا السؤال طرحه وأجاب عنه " شلومو ساند " في كتابه قائلا  :  إنه لاوجود لقومية يهودية أو شعب يهودي واحد ، يعود في أصوله العرقية والبيولوجية إلى جذور منفردة ، كما يزعم الفكر الصهيوني ، وإنما هناك الدين اليهودي ، الذي ينتسب أتباعه إلى قوميات وإثنيات وجغرافيات متعددة ، وأن القومية اليهودية مشروع صهيوني ، تطورت بذوره في القرن ال 19 ، متأثرا بالقومية الألمانية ، ومع تجذر عصر القوميات في أوروبا ، حيث قام الصهاينة باستنساخ التجربة ، بخلق واختراع قومية يهودية ، ليست موجودة سواء من الناحية التاريخية أو العلمية ، فقد اعتبر اليهود أنفسهم شعبا لمجرد اشتراكهم في ديانة واحدة ، ثم شرعوا في خلق تاريخ قومي لهم ، باختراع فكرة الشتات والعودة إلى أرض الميعاد ، وقد قامت هذه الفكرة الأخيرة ، أو الإختراع الصهيوني على ركنين أساسيين ، ينتميان إلى التاريخ التوراتي غير الدقيق  : الركن الأول هو فكرة الشتات اليهودي ، أما الركن الثاني فهو كون الدين اليهودي لم يكن دينا تبشيريا ، يل ظل محصورا بالجماعة الإثينية التي حملته واعتنقته في بداياته ، ومما يعني بحسب الإدعاء الصهيوني أن الشتات الذي طرد من فلسطين وبقى على قيد الحياة ، يعود في جذوره إلى القبائل اليهودية الأصلية التي هجّرت من فلسطين ، وأن اليهودية لم تدخلها أجناس أخرى أثرت على نقاء العرق اليهودي ، وهو الأمر الذي يتنافى تماما مع حقيقة أن اليهودية لم تختلف عن غيرها من الديانات في نزوعها نحو التبشير ، وإقناع أفراد وقبائل وشعوب أخرى بالدين الجديد ..  لقد ولدت دولة إسرائيل بفعل اغتصاب للمواطنين الأصليين عام 1948 وأن القومية اليهودية المختلقة على أرض فلسطين ، لم تكن إلا مشروعا سياسيا إستعماريا وأيديولوجيا ، وأطروحاته يجب أن ترى من منظار الأيديولوجيا ، وليس التاريخ  !!  " 

إستعراض التسلسل الزمني لفصول هذه القصة قد يبدأ باجتماع المحفل اليهودي الأكبر ( سنهدرين)  عام 1807 والذي رأسه الإمبراطور نابليون بونابرت بعد عودته من حملة مصر وإعلان نفسه إمبراطورا لفرنسا .. وقد طرح فيه نابليون مشروعه لدولة يهودية في قلب الضلع الذي يضم مصر وسوريا !! ثم تحرك زمن القصة مع تحرك ثيودور هيرتزل ، وعقد مؤتمر صهيوني في مدينة بازل السويسرية بمشاركة كل القوى المطالبة والمؤيدة لإستيطان اليهود في فلسطين ..  وهكذا بدأت إدارة الحركة اليهودية بإتجاه فلسطين ، وبكل وسائل وفنون التآمر ، ومناورات الخديعة ( !؟! ) والشاهد أن عام 1948 لم يسجل فقط النكبة العربية ، ولكنه تولى الإعلان عن أول سابقة في العالم ، بمولد دولة بلا حدود أو ترسيم جغرافي لسلطاتها ونفوذها ، وبعقيدة  حدود للدولة : تتمدد بإستمرار مع مدى ما تصل إليه قوة جيشها !! ويقول المفكر الفرنسي " رجاء جارودي"  في كتابه " فلسطين أرض الرسالات السماوية " أن السمتين الرئيسيتين للسياسة الإسرائيلية هما العنصرية والتوسع ، وأن المبدأ الأساسي الذي يربط إحداهما بالآخر ، قد صاغه بكل وضوح " تيودور هيرتزل"  في جريدته ، وهو يروي محادثاته مع الأمير  "هو هنلوه " مستشار الإمبراطورية الألمانية ، وكتب هيرتزل يوم 8 أكتوبر  1898 يقول : " سألني الأمير عن الأراضي التي ننوي الحصول عليها ، هل ستكون إلى الشمال حتى بيروت ، أم أبعد من ذلك ؟ قلت له : سوف نطلب ما نحتاج إليه ، وكلما زاد المهاجرون يجب أن تزيد الأرض " !! 

وتلك كانت الرؤية الحاكمة للفكر الصهيوني منذ البداية !! 

والإعلان عن مولد المشروع الصهيوني في إطار دولة فوق جغرافية فلسطين العربية ـ 15 مايو  1948ـ  لم يكن حدثا عابرا خلقته المصادفات ، أو دفعت به الأقدار لليهود ، ولكنه جاء في نطاق تسلسل طبيعي لخطوات وحوادث وتحركات ، سبقت بتحديد الأهداف ، وإكتشاف الطرق ، ووضع البرامج والخطط .. ويستعرض كتاب " إستراتيجية الإستعمار والتحرير "  للدكتور جمال حمدان ،  تزامن بدايات الحركة الصهيونية مع آخر موجة كبرى من موجات الإستعمار الأوروبي الحديث ـ في القرن التاسع عشر ـ ثم تزامن تحقيق أهدافها مع نهايات عصر الإستعمار بوجه عام !! فلقد تعلقت الصهيونية بأذيال الموجة الإستعمارية لتركبها ، ولتستثمر المناخ السياسي الإستعماري العام ، وصولا إلى تنفيذ مخططاتها الخاصة بإنشاء الدولة اليهودية ، وتم تشكيل الكيان الإسرائيلي على مرحلتين : التغلغل ثم الغزو ، وبعد عدة موجات من التسلل والتسرب المبعثر حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى ،  فتح الإنتداب البريطاني الباب للهجرة إلى الوطن القومي ليبدأ تغلغل حقيقي خلق جسما خطيرا من أقلية يهودية ، وإنتزاع موطىء قدم بسياسة شراء الأرض المخطط لها من قبل ، وبهذا وذاك تكونت نواة المجتمع اليهودي في فلسطين ، وخلق دولة داخل الدولة ، وقد إتسمت هذه المرحلة الدموية بحرب العصابات اليهودية يدعمها الإنتداب البريطاني بالسلاح في وجه مقاومة عربية ثورية ، قاومها الإنتداب أيضا بالقوة ، ثم بدأت مرحلة الغزو بالإغتصاب الشامل بعد إنسحاب الإنتداب البريطاني متواطئا في عام 1948 !! و كان من المستحيل منذ البداية أن يتحقق حلم الصهيونية إلا بالمساعدة الكاملة من قوى السيادة العالمية ، ومن هنا التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاءا تاريخيا على طريق واحد هو طريق المصلحة الإستعمارية المتبادلة ، وعلى هذا الطريق تحرك إرتباط الصهيونية بهذه القوى حسب تحرك مركز الثقل في زعامة الإمبريالية ، فكانت بريطانيا هي التي خلقت  "الوطن القومي " منذ الحرب العالمية الأولى ، بينما خلقت الولايات المتحدة " الدولة اليهودية " منذ الحرب العالمية الثانية !! 

وقد تكون هذه النقاط مجرد إشارات بالخطوة السريعة على طريق ( النكبة الأولى ) وفي محاولة للتذكير ، وبمفهوم أن الأمم الكبيرة تتذكر لكي تحيا ، وأن التذكر يقظة ، واليقظة حالة من عودة الوعي !! أما ( أخوات النكبة ) وتوابعها ، فقد تداعت تباعا ، مرحلة إثر مرحلة ، وحين إعتمدنا على منطق مختلف تماما في تعاملنا مع هذا الكيان .. والذين سبق لهم أن صرخوا بأعلى صوت ، بأنه لا تفاوض ، ولا إعتراف ، ولا صلح  ،مع إسرائيل ، هم الذين صرخوا بأعلى صوت أيضا ، بالتفاوض ، والإعتراف ، والصلح مع إسرائيل !! هل تغيروا ؟ ! أم  هي رؤية أقرب بمقدار ما يقول به العرب " ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى .. عدوا له ما من صداقته بد " وبهذه الرؤية تنازلنا أو " تدحرجنا " إلى أسفل السفح ، حتى أصبحنا نطالب أو نستجدي العون والتدخل من أجل بقايا ما بعد 1967 داخل فلسطين ، ونحن في حالة أسوأ من حالة الغياب ، غير قادرين على صنع قرار ، وكل طرف عربي يهتم بنفسه فقط ، ويبحث عن خلاصه الخاص ، وفي لحظة هي أقرب إلى لحظة هروب في التاريخ ، ومن المأثورات الشائعة أنك تهرب أحيانا لتجد نفسك في حضن عدوك .. ولم يكن الإسرائيليون ينتظرون غير هذه الفرصة .. وهذا جانب آخر من المأساة الملهاة !! 

وهكذا .. كانت نزعات الوهم ، قادرة على ترحيل الحقائق إلى هامش الوع .. 

وهكذا.. كان التبسيط المخل للصراع العربي الإسرائيلي ، وطالما أن الأزمنة الحرجة والخطرة كانت غائبة عن بال الأمة !!

وبأمانة فإنني أعتقد أن الغموض واللامعقول جعل كل ما جرى ويجري من الأحداث ، يحار مشاهدوه في تفسيره.. واللافت للنظر أن غير المفهوم وغير المقبول " هذا " أصبح مادة للحوار والإفتاء في فقه السياسة العربية!! والطريف ـ إذا كانت المسألة تتحمل الطرافة ـ أن تكون هذه النقاط بشكل أو بآخر هي محور المداولات والمفاوضات والتنازلات واللقاءات الجارية منذ عام 1991 ، وكانت على النحو التالي: 

• 1 ـ إنسحاب إسرائيل من معظم الأراضي ( وليس كل الأراضي بالطبع ) التي إستولت عليها سنة 1967 على أن يتم الإتفاق على الحدود الجديدة الآمنة ، وتبادل المواقع التي يصعب التنازل عنها مقابل مواقع أخرى ، وبالتفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ، ولا عودة إلى حدود ما قبل يونيو  1967 وهو ما يتعارف عليها الآن بأحد الخطوط الحمراء الإسرائيلية !!

• 2ـ أن تكون الدولة الفلسطينية ( وطنا ) للفلسطينيين بدون سيادة كاملة على المجالين الجوي والبحري ، وعدم وجود جيش فلسطيني ، ومنع إبرام تحالفات عسكرية مع أي دولة أخرى ، وأن أغلبية المستوطنين اليهود  مستمرون في البقاء بالضفة الغربية ، وفقا للإتفاق الخاص بتبادل المواقع والأراضي !!

• 3 ـ أن يؤجل موضوع القدس إلى مرحلة لاحقة .. وإلى أن يحين موعد المرحلة اللاحقة ، فإن مخطط توسيع حدود القدس متواصل ، ومع تمددها بإتجاه قرى الضفة الغربية المحاذية لحدود القدس .. والهدف واضح ، بأن تكون هناك إمكانية لطرح أجزاء من هذه التوسعات الجديدة ، وبإعتبارها إحدى ضواحي القدس خلال مفاوضات الوضع النهائي ، وحتى تجد إسرائيل مواقع بديلة تتنازل عنها بدلا من القدس الموحدة !! 

• 4 ـ إقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل وبين جيرانها العرب .. وأن طرفي النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتفاوضون مباشرة لحل الأزمة ، وأن ينحصر دور القوى الخارجية عن المنطقة في تسهيل الإتفاق بين الأطراف ، ودون تدخل كطرف مشارك في المفاوضات !! 

       أليست هذه ـ تقريبا ـ هي قواعد اللعبة حتى الآن ؟! 

والحقيقة النهائية تبقى مع الأسف ، أن أحدا لا يريد أن يقترب من تفاصيل التصور الإسرائيلي لمفهوم الأمن ، أو الضمانات المطلوبة حول " أرض إسرائيل "  ، أو حدود الرؤية لمفهوم " الأمن مقابل السلام " وليس  "الأرض مقابل السلام " !! والحاصل أن التصور الإسرائيلي للأمن قد سبق إستكشاف آفاقه ، ودراسة دروبه ، ورسم خريطة كاملة له .. وهو ما يجرى تنفيذه على الأرض من مشروعات " المستعمرات " الإستيطانية والتي صادرت أكثر من 38 % من مساحة الضفة الغربية المحتلة والتي أصبحت الآن مستوطنات وقواعد عسكرية ومناطق عسكرية مغلقة ( 48 قاعدة عسكرية في الضفة بما في ذلك القدس الشرقية وتسيطر على حوالي 1919 هكتار ـ 19 ألف و190 دونم ـ  من الأرض ( التي يحظر على الفلسطينيين دخولها ) و14 قاعدة عسكرية في وادي الأردن !!

ويرسم تقرير " مايكل وليمز " ـ المنسق الخاص لعملية السلام بمنطقة الشرق الأوسط ـ والصادر في شهر يونيو  2007 صورة المشهد الإستيطاني داخل الضفة الغربية المقيدة بنحو 523 حاجزا تحد من حركة الفلسطينيين ، والذين يواجهون حصار الجدار العازل الذي يتم بناؤه حاليا ( 525 كيلو مترا من 721 كيلو مترا ) وثلاث أربع مسار الجدار يقع داخل الضفة الغربية وليس على مسار الخط الأحمر ، وعند إكتمال بنائه فإن حوالي 0.2 % من أراضي الضفة الغربية ستعزل كلية ، وترتبط فعليا بإسرائيل !! وداخل المشهد الاستيطاني 450 ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون الآن في 149 مستوطنة ، وتم إنشاء تسع مناطق صناعية يمتلكها إسرائيليون يعيشون بالقرب من المستوطنات في الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية ، وأن حوالي 57 % من إجمالي عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية يعيشون داخل 10 كيلو مترات من المدينة القديمة للقدس ، وكثيرا منهم في داخل ما أعلنت إسرائيل عنه حدود بلدية القدس ، ومن ثم فإن هذا الإجراء زاد من عزلة القدس الشرقية ، التي هي موطن حوالي 250 ألف فلسطيني ، عن باقي الضفة الغربية ،وحوالي 8 في المائة من إجمالي المستوطنين الإسرائيليين يعيشون في 25 كيلو مترا في محيط القدس ، في محافظات رام الله وبيت لحم!! 

وإتصالا بما سبق .. فقد كان الخطأ الذي وقعنا فيه ـ إذا صدق ظني ـ  هو الإقتناع دون مبرر يستند إلى منطق وعقل ، بنص مقولة لصاحبها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات ، أن 99 % من أوراق حل القضية في يد أمريكا ، وإعتمدنا الرهان الأحمق على الوساطة والتحركات الأمريكية ، وأرجح الظنون أن الدول العربية لم يعد أمامها خيار إلا حسن الظن في دور الوساطة الأمريكية !! وفي المقابل لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية في موقف يستدعي الرهان عليه ، وهي تعيد تكرار نفس الثوابت ، ونفس الأفكار ، وراحت تؤكد عليها :  

 * أولا : ضمان أمن إسرائيل ( كدولة يهودية ) !! وهوية " الدولة اليهودية " ،تنفي الإعتراف بحق العودة للإجئين الفلسطينيين ، وتضع علامات إستفهام حائرة حول مصير عرب 48 داخل الدولة اليهودية ،وحول ضرورات وأحكام الأمن والمصلحة لدولة يهودية في المنطقة !! ومسألة الضمان الأمريكي لأمن الدولة اليهودية ، لا تحتاج إلى إعادة تكرار .. وأتصور أن التعهد الشهير الذي أعطاه  " هنري كيسنجر " لإسرائيل كتابة وبتوقيعه كوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ، لا يزال ساري المفعول وحاكما .. والتعهد الشهير يقول : " إن الولايات المتحدة تتعهد بألا تتقدم بأية مقترحات جديدة في أية مفاوضات تجرى بين الأطراف إلا بعد أن تتشاور وتتفق في أمرها مع إسرائيل" !! وقد لحق بهذا التعهد التزام آخر غير معلن ، بأن تتولى الولايات المتحدة ـ عندما تستدعي الضرورات وتتحكم الظروف الطارئة ـ عرض المقترحات والتصورات الإسرائيلية في صياغة أمريكية .. أو كما يقولون 
الأفكار إسرائيلية واللسان أمريكي !!  

* ثانيا : التلويح بإعلان فشل الأمم المتحدة في إدارة النزاع والتوصل إلى تسوية سلمية،  وحتمية حصر المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ، بعيدا عن أي تدخل دولي ـ وبالطبع بإستثناء التدخل الأمريكي ـ و هذه الرؤية الأمريكية تتفق تماما مع ثوابت الفكر الإسرائيلي الرافض للمظلة الدولية والشرعية الدولية وقراراتها .. وكلمة " دولي " من أبغض الكلمات عند إسرائيل ، وهي ترى في " المظلة الدولية " تجاوزات تتعارض مع حرية الحركة والفعل فيما تراه مناسبا ، وتحميلا للأمور بأكثر مما تحتمل ، وترى في الكلمة إشارات وإيماءات قد تعطي للمجتمع الدولي والشرعية الدولية حقوقا على حساب أوضاعها وشئونها الداخلية ، وإنتقاصا من سيادتها ، وإنفرادها بحقوق الرفض وإملاء ما تريد !! 

ذه الرؤية ، راحت الأفكار الإسرائيلية ـ الأمريكية ، تستخلص نقاطا محددة للحل ، على النحو التالي: 

( 1 ) إحتفاظ إسرائيل بالتجمعات الإستيطانية الكبرى في الضفة الغربية ، بما فيها خطوط الربط والتواصل الجغرافي بين هذه المستوطنات ، وتعويض الفلسطينيين عن الأراضي التي ستضمها إسرائيل بمنحهم مناطق صحراوية ( المقترحة في صحراء النقب ) ..

 ( 2 ) إن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ، ومناطق من إسرائيل ستنتقل إلى سيادة دولة فلسطين ضمن الإتفاق الخاص بتبادل الأراضي ـ هو حق لجميع اللإجئين الذين يرفضون التعويضات .. وأن يقر الجانبين بحق عودة اللإجئين إلى وطنهم ( دولة فلسطين ) والإقرار بأن ما ورد يعتبر تنفيذا للقرار 194 !!

( 3 ) ضرورات الأمن للدولة اليهودية ، تفرض الإتفاق مع الدولة الفلسطينية على الإحتفاظ بمحطات إنذار مبكر إسرائيلية في جبال الضفة الغربية ، وأن تكون هناك ترتيبات خاصة للإحتفاظ بحقوق إسرائيل في مجالي التدريب والحركة داخل المجال الجوي لدولة فلسطين!! وأن إعلان دولة فلسطين مرتبط بالأمن المطلق لإسرائيل ـ أمن أرض إسرائيل ،وأمن شعب إسرائيل ـ وبمفهومه الأشمل الذي يكفل الضمانات حول الوجود الإسرائيلي ، والتأكد من أن الآخرين غير قادرين على الوصول إليه !! إلى جانب التلويح بقدرة الجيش الإسرائيلي وقتما يريد وكيفما يشاء بالسيطرة على أي مواقع تهدد الأمن الإسرائيلي ، أو مواقع تمثل بؤرا للإرهاب !!

( 4 ) البحث عن تركيبة للسيادة على القدس الشرقية المحتلة .. سيادة أفقية حسب تقسيمات الشوارع والأحياء القديمة .. وسيادة رأسية ـ فوق وتحت الأرض ـ بالنسبة للمسجد الأقصى وقبة الصخرة وأساسات الحرم القدسي تحت الأرض .. وسيادة دينية ، فلسطينية إسرائيلية مشتركة ، على أهم الأماكن الدينية في المدينة القديمة .. ولا يزال التباين شاسعا بين السيادة الفعلية والسيادة الشرفية !! وقد رفض الجانب الإسرائيلي مجرد الإشارة إلى سيادة الوصاية وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتعيين مجلس وصاية يتولى إدارة المدينة ، أو فكرة المدينة المفتوحة التي تعتمد على نموذج الحدود الفرنسية السويسرية المتداخلة !!

وحكاية البحث عن تركيبة للسيادة في القدس كانت من أبرز أحداث المشهد الأخير للولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون ـ في شهر سبتمبر 2000 ـ والذي لم يحظ بشرف إنجاز تاريخي كان يسعى إليه جاهدا لعقد إتفاق سلام نهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، ولم يجد أمامه سوى مطاردة الفلسطينيين في كل مكان للموافقة على تنازلات جديدة بشأن القدس ، وتضييق فجوة الخلاف بينهم وبين الإسرائيليين !! وكان  "إيهود باراك " رئيس وزراء إسرائيل وقتئذ ، يطرق كل الأبواب لتمرير صفقة القدس من الأبواب الفلسطينية والعربية والإسلامية ، وبدعم أمريكي ، وكيف يمكن إستثمار الفرصة المتاحة لتحصيل ما يمكن تحصيله من التنازلات الفلسطينية والعربية !؟ وكل المقترحات التي طرحت ، وصاحبتها ضغوط أمريكية ، وتدفع بها جهود وساطة دولية ، وتحيط بها على إستحياء وفي الظل تلميحات ترضية عربية ، وتباركها حينا آخر تصريحات دول محسوبة على العالم الإسلامي ، ومجمل هذه المقترحات حول السيادة على القدس الشرقية المحتلة ، تحاول المواءمة بين حقوق ومطالب الفلسطينيين والعرب ، وبين ثوابت المطامع والأهداف الإسرائيلية !! وكان التلاعب بالألفاظ واضحا حول مصير " القدس " ، أو حسب إعتراف " يوسي بيلين " وزير العدل الإسرائيلي ـ وقتئذ ـ فإن التلاعب قائم ومحتمل في أي إتفاق حول السيادة !! وحسابات الإدارة الأمريكية كانت لا تخرج عن إحتمال واحد ، وهو أن النظم العربية إذا لم تستطع أن تؤيد المقترحات والأفكار الأمريكية الإسرائيلية ، فإنها على الأقل تستطيع أن لا تعارض !! وحسابات الإدارة الأمريكية أيضا قامت على أساس أن دول العالم الإسلامي لن تستطيع أن تفعل شيئا مضادا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وأن حركة العلاقات العامة الأمريكية كفيلة باستئناس وترويض هذه المواقف دون أن تعترض المقترحات أو تزيد من صعوبة الأمور بالنسبة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي !!؟  ثم زاد الطين بلة حين إقترحت دولة إسلامية " تركيا " تحويل المسجد الأقصى الشريف إلى متحف على غرار متحف " أيا صوفيا " الشهير في مدينة اسطنبول والذي يضم مسجدا وكنيسة ، وتقسيم الصلاحيات في منطقة الحرم الشريف بين إسرائيل والفلسطينيين بحيث يتم منح المنطقة العليا للمسلمين ، والوسطى لليهود ، والسفلى للمسيحيين ، وأيدت دولة إسلامية أخرى " أندونيسيا " سيطرة إسرائيل على القدس المحتلة ، بأن يكون لإسرائيل سيطرة إدارية على المدينة المقدسة ، وإشراف هيئة دولية على السيادة السياسية .. ولست أعرف كيف يمكن توصيف المنطق الذي تصدر عنه مثل هذه التصريحات والأفكار !؟! 

وفي الجملة فإن التلاعب بألفاظ هذه النوايا والأفكار والأهداف ، كان على هامش ثوابت الفكر الصهيوني والبرنامج السياسي ـ للمحرمات والمقدسات ـ لأي حكومة إسرائيلية ، والذي يؤكد على أن القدس الكبرى " الشرقية والغربية " والضواحي والامتدادات الملحقة ، هي العاصمة الأبدية لإسرائيل ، وستظل المدينة موحدة وغير مقسمة !!

وهناك إضافة فوق ما تقدم كله .. فإن إسرائيل تتعامل مع قضية السلام من زاوية واحدة فقط لا غير ، وبإعتبارها قضية أمن ووجود .. وإذا كنا ـ نحن ـ قد تنازلنا كثيرا وطويلا ، عن حقائق التاريخ والجغرافية ، وشطبنا حقائق أخرى كاشفة ، وترتبط بأهداف ومطامع وخطوات تأسيس الكيان الإسرائيلي ، فإن إسرائيل لم تلغ هذه الحقائق ، ولن تستطيع فك الإرتباط بها ، لأن مجرد غض الطرف أو إنحراف التفكير والوعي ـ ولو قليلا ـ عن هذه الحقائق، يعني التخلي طواعية عن الثوابت ، وأن يكون باب الإجتهاد مفتوحا أمام  قضية الأمن والوجود !؟ فإسرائيل ولأسباب عديدة ، لا تزال مسكونة بهواجس القلق تجاه قواعد تأسيسها في المنطقة ، وهي أكثر تقديرا لحقائق الخلق لمجتمع تحكمه أيضا هواجس الأمن المطلق ، ومتاهات البحث عن إنتماء للمنطقة .. وأتصور أن قضية السلام بالنسبة لإسرائيل ، هي قضية أزمة وجدت نفسها في مواجهتها ، بعد أن وجدت نفسها على طريق المفاوضات بمساراتها المتعددة من أجل السلام !! وبالطبع كانت المبادرة والإلحاح والجهود والإتصالات ومن أول سطر في قصة السلام وحتى السطور الراهنة ، هي مبادرة عربية ، وبكرم زائد لم يخطر على بال أحد في إسرائيل ولاحتى في أكثر أحلامهم جموحا .. ومن ناحية أخرى فإن السلام يرتبط بالتزامات وإستحقاقات ، وهناك مطلوبات محددة وواضحة ، وعلى إسرائيل أن تدفع ثمن السلام حتى بعد أن تنازل العرب عن الأرض التي احتلت عام 48 واكتفوا بالأرض التي احتلت سنة 1967 ـ وبالقطاعي ـ أو أجزاء منها فيما يخص المسار الفلسطيني .. ومن ناحية ثالثة فإن الظروف والأوضاع في العالم العربي غير مستقرة ، ولم يعد هناك بالفعل قول واحد ، أو موقف واحد ، أو تصور واحد ، وعلى هذا الأساس فإن إسرائيل ترى أن الرهان على المواقف العربية نوع من المقامرة ، وهي لا تتحمل أي مغامرة في شئون تتصل بمستقبل وجودها ، حتى لو كان التصور العربي ـ الغالب ـ للسلام ، هو إنهاء حالة الحرب !! وأعتقد أن إسرائيل تعيش الآن " أزمة السلام " وتحاول أن تؤجل التعامل معها أو تعالجها مؤقتا أو تدفعها جانبا بأزمات أخرى مختلفة حتى تنتهي مرحلة البحث عن جميع فرص النجاح وبشرط أن تكون مكفولة بضمان على المدى الطويل .. الطويل .. إلى أن يتحقق ذلك فإن حوار السلام سيظل متصلا وبصرف النظر عن نتيجته .. وبصرف النظر عن التعهدات والإتفاقيات التي تم التوقيع عليها وبإشراف أمريكي ..وبصرف النظر عن عنصر الزمن ، فليس هناك توقيت مقدس كما يقولون !!

ومع التحركات الفرعية المتواصلة داخل وخارج عملية السلام ، تواصل إسرائيل تحركاتها وإزدراء القانون والمجتمع الدولي ، بتعزيز ممارسات الإستيطان والتوسع ، وإحكام القبضة على القدس المحتلة .. وإسرائيل ـ الحكومة والمعارضة والشعب اليهودي ـ تؤكد وحدة القدس كمدينة يهودية وكعاصمة لإسرائيل حتى يصبح للكيان الصهيوني تاريخ يمتد لأكثر من ألفي عام .. وجنرالات الحرب والسلام ـ معا ـ يؤمنون بأنه من غير القدس ستكون إسرائيل بلا تاريخ ولا تراث ..